لا شك أن البيئة التربوية هي المفصل في إنشاء وإعداد جيل قوي صالح، لأنه من المُحال أن تنبت بذرة ويقوى عودها وتكون صالحة للحياة إن كانت التربة التي وُضعت فيها فاسدة، حتى لو أتقن العمل في زرعها ورعايتها، لأنّ الأصل فاسد.
ويُمثل توفير البيئات التّربوية الآمنة تحديًا في عصرنا الحالي، خصوصًا أن التربية لا يُمكن أن تتم بمعزل عن المجتمع بمؤسساته المختلفة، بالإضافة إلى كونها عملية مركبة وشديدة التعقيد ومتداخلة مع عديد من المتغيرات والعوامل، وهو ما يجعل من قبيل الاستحالة قيام فرد أو مؤسسة بأداء أدوارها بشكل منفصل؛ ما كان سببًا ودافعًا لظهور بيئات تربية مختلفة تمثِّل ملاذًا آمنًا وحصنًا لحماية النشء.
مفهوم البيئة التربوية وكيفية ضبطها
إنّ أركان العملية التربوية أربعة: البيئة التربوية والمُربي والمتربي والمنهج، ويُعد ركن البيئة أحد العناصر المهمة لنجاح التربية، وهي تعني جُملة العلاقات التي تربط أطراف العملية التربوية والمناخ المحيط بهم والآداب والأعراف التي تنشأ بينهم، فتتناول المربي والمتربي ومَن يتعامل معهم والعلاقات الأفقية بين الأفراد وبعضهم والعلاقات الرأسية بين الأفراد وقيادتهم وبالعكس، وكذلك الآداب والأعراف والجو الغالب على المناخ الذي يتحركون في ظلاله (الربانية – الأخوّة – الجهادية).
ويُمكن تعريف هذه البيئة بأنها الحيز الملائم والآمن الذي يحتضن النشء ويرعاهم، ويعدهم ويُهيئهم لإكساب المعرفة بالأدوار المتوقعة منهم، وتنمية شخصياتهم وصقلها، ومساعدتهم على النمو الآمن والمتكامل، من خلال ما تقدمه من مختلف البرامج؛ الروحية، والثقافية، والاجتماعية، والمهارية، والرياضية.. وغيرها.
وتحتاج البيئة التربوية إلى جهدٍ كثير لضبطها والارتقاء بها إلى المستوى المطلوب، حتى تكون صالحة لإخراج أجيال مسلمة ملتزمة بدين ربها، ويكون ذلك من خلال المعايشة، فلا بُد من أن يكون هناك مُعايشة بين المربي والمتربي وكل حركة للفرد والمسؤول داخل الصف معايشة بشرط أن تكون بتخطيط ورؤية، لأن هناك أهدافًا للمعايشة يجب تحقيقها، ولكي تتحقق لا بُد من مهارة وأن تكون متكررة وليست خاطفة وأن يكون فيها تواصل قلبي.
والمناخ العام الذي تجري فيه المعايشة يجب أن يكون مناخًا صحيًّا جيدًا يقبل هذه المعايشة ويُنمّيها، وهى ليست مُجرّد دردشة، وليست مُجرّد قضاء وقت، بل لا بُد من أن يكون من مستهدفات واضحة يجري الترتيب لتحقيقها، ومن مظاهر واضحة، وبالتالي يجب من الإعداد والتخطيط لها.
ملامح البيئة التربوية المطلوبة
وتتلخص ملامح البيئة التربوية المطلوبة في عدد من النقاط، التي يجب توفرها لتكون هذه البيئة آمنة وصالحة لتقويم وتربية النشء، ومن هذه الملامح:
- مناخ الربانية: إذ لا بُد من استشعار الأفراد أن ما يجمعنا هو عبادة الله- عز وجل- وأن ما نقوم به هو طاعة كاملة لله- جل وعلا-، فينتج ذلك ترتيب الأولويات والحفاظ على الوقت وكثرة الاستغفار والدعاء واللجوء إلى الله، وإحساس الفرد بأنه موصول بالله عز وجل، وهذا- أيضًا- يثمر الهمة العالية، والاستعداد للتضحية وعدم التضجر من الأعباء، والصبر على تكوين النفوس وبناء القلوب المؤمنة، لأن المهمة طويلة المدى وجهدها كثير والتغيير فيها غير سريع، ولو كانت هذه المعاني ضعيفة فإن مناخ الربانية من الطبيعي أن يكون ضعيفاً وبالتالي يكون هناك خلل في البيئة التربوية.
- روح الابتكار والإبداع: وهذا من حب الأخ لدعوته وشغفه بها، وهي خاصّة بالفرد ولكن عدم وجودها معناه وجود مشكلة في بيئة التربية.
- المحاسبة الذاتية: فجب أن تكون النّفس لوّامة لضبط الأداء، قبل محاسبة الغير.
- آداب العلاقات: بأدب الحديث داخليًّا وخارجيًّا، ومعاني الإيثار والعفة، وروح سلامة الصدر وهذا يقتضي التغافر وإحسان الظن، والتواصل الاجتماعي بين الإخوان، وروح المحاسبة وأدب المحاسبة، وأدب توجيه الأمر، وأدب الاستماع للنصيحة من الأفراد للقيادة والعكس.
- الحب الوثيق: وهو القلبي للإخوان المشاركين في كل عمل، وكذلك غير المشاركين.
- احترام القيادة والثقة فيها: سواء كانت لقائد أو شيخ أو والد أو أستاذ أو مربي، وبدءًا من مسؤول الأسرة، ولا بُد من أداء حقوقها بالمظهر وبالروح وأن نسمع لقيادتنا بقلوبنا وليس بآذاننا فقط، وهذا الاحترام لا ينفي النصيحة وإبداء الرأي، وإن كان مخالفًا، ولكن في بيئة صحية إيجابية متحابة متآخية.
- التكافل بين الإخوان: ويكون ذلك بكل الصور، وليست المادية فقط.
- المزج بين الأصالة والمعاصرة: وهي من الملامح المهمة لهذه البيئة التي تنجح في ربط حاضر النشء بماضيهم، وواقعهم بمستقبلهم، فمن الضروري في بناء الشخصية ترسيخ الهوية والجذور العقدية والفكرية والأخلاقية، وتعميق الشعور بالاعتزاز والانتماء للدين والأوطان، وفي الوقت ذاته تحقيق التعايش مع الواقع، والوعي بأبعاده المختلفة؛ الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والفكرية، والروحية.
- الحماية والتحصين: ففي عصر العولمة الذي نعيشه فقدت المجتمعات السيطرة الكاملة على سرعة انتقال الأفكار والسلوك، وهو ما يظهر في اجتياح كثير من الأفكار المتطرِّفة والسلوكيات الهدَّامة والمنحرفة لمختلف المجتمعات، مهما كانت درجة انغلاقها ومحافظتها، حتى أصبحت تلك الأفكار والسلوكيات تمثِّل خطورة على أمن بعض المجتمعات واستقرارها، ويأتي دور البيئات التربوية الآمنة في حماية النشء وتحصينهم ضد أي فكر منحرف، وضدَّ مظاهر السلوك الناتجة عن تلك الأفكار.
- إتاحة حرية التفكير والتعبير عن الرأي: فتوفُّر مناخ من الحرية في التفكير والحوار والتعبير عن الرأي؛ يعدُّ من أهم معايير أي بيئة تربوية آمنة بشكل عام، ولا شك أن توفُّر ذلك المناخ يُسهم في التعامل مع الأفكار السالبة والقيم الدخيلة في إطار من الفهم والوعي والإقناع، بعيدًا عن الالتزام المجرَّد واللاواعي أو القسري، الذي يكون عرضة للانهيار بسهولة في ظلِّ الانفتاح -الثقافي خصوصًا- الذي نعيشه في العصر الحالي، ومن هنا تأتي أهمية توفير بيئة آمنة للنشء في بيئاتنا التربوية، تعزِّز التفكير والتعبير عن الرأي، مع توفير الأدوات المنهجية والبرامج التربوية الملائمة لتعميق الفهم والوعي لديهم، والسماح لهم بالتفاعل الحر، والتعامل مع التحديات ومواجهتها بشكل شخصي.
أدوار بيئة التربية الآمنة
وتستمد البيئة التربوية الآمنة أدوارها من المنهج الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن أبرز هذه الأدوار:
- استثمار الوقت بفاعلية فيما يعود على النشء بالنفع والفائدة في الدين والدنيا.
- بناء الشخصية السّوية وصقلها بشكل يحقِّق التكامل والتوازن.
- تعزيز المهارات والقدرات والارتقاء بمستواهم في مختلف جوانب الشخصية.
- ترسيخ القيم الإيجابية، مثل: الانتماء، والمواطنة، والتعاون، والتسامح، وتقبُّل الآخر.
- تفعيل ثقافة العمل التطوعي وخدمة المجتمع وتعزيز المسؤولية الفردية تجاهه.
- إتاحة التعبير عن الرأي في بيئة صحية وفي إطار من الرعاية والتوجيه.
- الإدماج في المجتمع وتعزيز الترابط المجتمعي والتكيُّف مع التغيُّر والمستجدات.
- تعديل السلوك الخاطئ وتعزيز البدائل السلوكية الإيجابية المقبولة.
- إشباع الحاجات الضرورية والميول وتنمية المواهب والاتجاهات الإيجابية.
- غرس القيم الدينية والاجتماعية وتأصيلها وتدعيمها في نفوس المتربين.
- إكساب الخبرات الضرورية للحياة ولتحقيق النجاح والاستقرار النفسي.
- الحماية والتحصين من الأفكار الهدَّامة والقيم السلبية.
إنّ تهيئة البيئة التربوية الآمنة تُمثل تحديًا كبيرًا يُواجه الكثير من الأسر، لكن الالتزام بضوابطها وملامحها، يُسهم في تربية الأجيال تربية سليمة، مثلما تربى الرّعيل الأول في الإسلام، فكانت هناك كتيبة تتحمل العبء الأكبر والمسؤولية العظمى وهي التي تقوم بالمهمة الأساسية وتُحسم بها نتائج المعركة.
ففي معركة اليرموك 300 شهيد من الصحابة تحملوا عبء الصدمة وحولوا نتيجة المعركة بفضل الله، وقبلها في أحد وحنين ومواقف كثيرة في تاريخنا الإسلامي والدعوي، والعاملون في مجال التربية يمثلون هذه الكتيبة في العمل الأساسي الحقيقي لحراسة الدعوة وتربية الصف وصيانة المجتمع المسلم، وتحقيق الأهداف المطلوبة.
المصادر والمراجع:
- موقع البلاغ: صناعة البيئة التربوية المناسبة.
- بدرية عبدالوهاب الشهري: البيئة التربوية (رياض الأطفال) أُسسها ومحاكاتها.
- نعمات محمد عبد الواحد: البيئات التربوية.. من أجل بيئاتٍ آمنةٍ فعَّالةٍ للشباب.
- موقع الخليج: البيئة التربوية الجاذبة تكبح سلوك الطلبة السلبي.
- عبد الرزاق السيد: إيجاد البيئة الصالحة لصلاح الفرد.