لقد ظهر مصطلح أسلمة العلوم في الفكر الإسلامي المعاصر ليُقصد به إقامة العلاقة السّليمة بين العلوم النقلية التي مصدرها الوحي، والعلوم العقلية التي مصدرها الكون والإنسان، وفق منهجية إسلامية رشيدة، تلتزم تعاليم الإسلام، وتتمثل مقاصده وقيمه وغاياته، دون أن تُعطل عمل العقل أو تعوق حرية البحث والتفكير.
وفي دراسة للدكتور أحمد فؤاد باشا بعنوان: (نحو إعداد الشباب المسلم لمواجهة التحديات العلمية والحضارية) قدّم تصورًا عامًّا لإعداد الشباب المسلم القادر، فكريًّا وعمليًّا، على مواجهة التحديات العلمية والحضارية بالإسهام في إسلامية المعرفة الكونية وتقنياتها، بحيث يفاد منها فيما يعمر الحياة وينفع الناس ويعمق الإيمان بالله – سبحانه وتعالى- على هدى وبصيرة.
مفهوم أسلمة العلوم
إن مفهوم أسلمة العلوم أو إسلاميتها يتلخص في إطارها العام وهو إقامة العلاقة الصحيحة بين (الإلهي) و(الإنساني) في العلوم والمعارف، وَفق منهجية إسلامية رشيدة، تلتزم تعاليم الوحي، وتتمثل مقاصده وقيمه وغاياته، دون أن تعطل عمل العقل، أو تعوق حرية البحث والتفكير، ابتغاء مرضاة الله في الدنيا والآخرة، وتحقيق إرادته، بإعمار الحياة وترقيتها إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
ويتميز هذا المذهب في المعرفة بأنه يعتمد كلًا من (كتاب الوحي) و(كتاب الكون) مصدرًا لإدراك الحقائق في كل من المصدرين؛ لأنها إن نهضت بمهام الإدراك لحقائق الكون في عالم الشهادة، فلن تفي بإدراك الحقائق في عالم الغيب، كما أخبر بها (كتاب الوحي) ممثلًا في القرآن الكريم وبيانه النبوي.
والعلوم التي يحث الإسلام على تحصيلها والاستفادة منها تشمل كل علم نافع يهدف إلى تكوين الإنسان الصالح، ويزيد من صلته بالله سبحانه وتعالى، ويمكنه من القيام بواجبات الخلافة عن الله في الأرض، سواء كان هذا العلم دينيًّا أوكان دنيويًّا، نظريًّا أو تجريبيًّا، فرضًا عينيًّا أو كفائيًّا، ما دام أنه في خدمة الدين الإسلامي ولصالح الحياة والإنسان.
وهذا ما نفهمه من إطلاق لفظ العلم في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114). ومن إطلاق معنى الأمر الإلهي في أول ما نزل من آيات القرآن الكريم ليشمل فهم وتدبر وقراءة كلمات الله القرآنية في كتابه المسطور وكلماته الكونية في كتابه المنظور، حيث قال عز من قائل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1 -5).
وقد ورد دعاؤه عليه الصلاة والسلام: “اللهم إني أعوذ بك من أربع: من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع”، ومقياس النفع لهذا ليس ذلك المعيار الفردي الذي نراه في الفلسفة (البراجماتية)، وبخاصة عند (وليم جيمس)، وإنما هو مصلحة الأمة وإقامة أمر الدين.
ضرورة أسلمة العلوم الكونية
إن الأخذ بالمفهوم الإسلامي للعلم، يجعلنا نُسلّم بأنّ أسلمة العلوم الكونية حقيقة واقعية، وأن التوجيه الإسلامي لهذه العلوم ضرورة حضارية؛ ذلك أنّ العلوم الكونية إسلامية بطبيعتها، لأن مادة البحث التي تعرض لها هي كل ما خلق الله – سبحانه وتعالى- في عالم الشهادة، ولأن واجب البحث فيها مطلب إسلامي من أجل تعميق الإيمان بالخالق الواحد على هدى وبصيرة، ولعمارة الكون بالحياة إلى ما شاء الله.
أما قولنا بأن التوجيه الإسلامي للعلوم الكونية بخاصة، والعلوم بعامة، ضرورة حضارية؛ فذلك لأن إسلامية المنهج العلمي، أو أسلمته، من شأنها أن تحفظ للعلوم الكونية موضوعيتها، وأن تخلع عليها من خصائص الإسلام ما يجعلها صالحة للتطبيق في كل زمان بما يحقق الخير للإنسان أينما كان.
وعندما انتقلت العلوم الإسلامية إلى أوروبا لم تأخذ النهضة الأوربية سوى الجانب المادي من المنهج الإسلامي، وتركت جانب الإيمان الذي يوجهها نحو الله تعالى؛ لذا فإن العلم في الحضارة المادية الحديثة والمعاصرة، بتخليه عن الإيمان والسمو الروحي، قد اعتبر قيمة حقيقة مطلقة في حد ذاته، وبالغ الناس في تقديسه وتمجيده على أساس أنه هو القوة القادرة على تحقيق الجنة الموعودة للإنسان على الأرض، فأنصار هذه النزعة العلمية المتطرفة Scientism يردون كل شيء إلى العلم، ولا يسلمون إلا بالمنهج العلمي والحقيقة العلمية.
وقد أصبح التطور الكمي للعلم والتقنية غاية في حد ذاته، ونشأت النزعة التقنية المتطرفة Technocracy التى يرمى أنصارها من التقنيين والخبراء الفنيين إلى فرض سيطرتهم باعتبارهم الأحق في هذا العصر بإدارة المجتمع واتخاذ القرارات الكبرى بشأنه.
وأمام هذا التطرف العلمي والتقني – وفي مقابله- ظهرت حركات عقلية جديدة تدعو إلى (اللاعلمية Antiscience) وتحارب الانغماس الأعمى في ماديات الحضارة الصناعية، وترفع صيحات التحذير من اطراد التقدم العلمي والتقني دون النظر إلى صلته بمعنى الحياة الإنسانية والذي سوف ينتهي بالإنسان إلى القضاء على حضارته.
بل إن بعض هذه الحركات المناهضة لتقديس العلم والتقنية أخذت تدعو إلى الهروب من الحضارة المادية المعاصرة بكل ما فيها من مظاهر خادعة، ورفعت شعارات العودة إلى الفطرة.
وإذا تأملنا واقع الفكر الإنساني في مرحلتيه الحديثة والمعاصرة، فإننا نجد العديد من القوميات والأيديولوجيات التي تحاول عن طريق العلم أن تثبت قدرتها على تقديم رؤية شاملة لهذا الواقع الإنساني، وتسعى جاهدة إلى استبعاد أي إدراك يخالف إدراكها الخاص، مؤكدة ميزتها بالاستناد إلى العلم في بناء نسق فكرى يبدو وكأنه نتاج منطقي للمعرفة البشرية.
لكن هذه الأيديولوجيات في حقيقتها لا تخلو أبدًا من معتقدات يغلب عليها روح التعصب، وتكتنفها نزعة الذاتية والمصالح الخاصة، ويكفي شاهدًا على ذلك ما نراه من تصارع بين أيديولوجيات ومذاهب فلسفية عديدة تسلقت على قوانين نيوتن وآراء دارون واحتمالية هيزنبرج ونسبية أينشتين وغيرها.
من هنا كانت أهمية الدعوة إلى توجيه العلوم بصورة عامة، والعلوم الكونية وتقنياتها بصورة خاصة، توجيهًا إسلاميًّا باعتباره ضرورة حضارية لضمان مواصلة التقدم العلمي والتقني مع الحفاظ على إنسانية الإنسان.
دور معاهد التعليم في توجيه العلوم إسلاميًّا
يدلنا استقراء الآثار الحضارية على أن الإنسان إنما خرج إلى نور التاريخ بعد أن غدا قادرًا على التفكير، وأصبح مدركًا لأهمية العلم ومواصلة التحصيل المعرفي في صنع التقدم وفهم المزيد من أسرار الكون والحياة، ومن ثم كانت بداية مشواره الطويل نحو تشييد الحضارات المتعاقبة التي جاءت ثمرة لتطور التفكير وإبداعات العقل في مختلف مجالات النشاط الإنساني.
وإذا كانت المعرفة في حد ذاتها تمثل لدى الإنسان حاجة عقلية ملحة تدفعه دفعًا إلى التماس الحقيقة في كل مظهر من مظاهر الوجود، فإنها في الوقت نفسه تستمد قيمتها من حصيلة مردها للمجتمع البشري.
وتتوقف هذه الحصيلة على درجة استيعاب الإنسان لعلوم عصره، وحسن استخدامه لها وفق مقومات ثقافته ومنهج تفكيره، وفي إطار القيم والمعايير والضوابط التي يرتضيها المجتمع أساسًا لتوجيه السلوك ورسم خطى التقدم والرقي.
لهذا نجد أن المجتمعات المتقدمة، أو التى تسعى بوعي وإصرار نحو التقدم والمدنية، قد أدركت جوهر العلاقة الوثيقة بين تنمية الإنسان حضاريًّا وبين انتمائه فكريًّا وعقائديًّا. وأيقنت هذه المجتمعات أن الدعامة الأساسية في تحقيق نهضتها ومواصلة تقدمها يجب أن تقوم على تأصيل ثقافتها وتعزيز قيمها بما يجعل سلوك الفرد فيها متوافقًا مع الإطار الفكري الذي يحكم حركتها ويحدد أهدافها. وعادة ما يقع العبء الأكبر في هذا الصدد على عاتق المؤسسات التربوية والتعليمية التي تضطلع بتدريس مناهج محددة في مراحل التعليم العام، والتي يكون لها أكبر الأثر في البناء الحضاري لمجتمعاتهم.
هذا هو ما تأخذ به دول كثيرة في أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية على حد سواء، وفي اليابان والصين وكوريا وإسرائيل وغيرها، بصرف النظر عن مدى نضج وصواب الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفلسفية والعقائدية المطروحة في هذا المجتمع أو ذاك.
وتخضع العملية التعليمية، حتى في أكثر الدول تقدمًا للفحص والمراجعة بصورة مستمرة بغرض الكشف عن مواطن القوة للاستزادة منها، والتعرف على مواطن الضعف للتخلص منها، والوقوف على المستوى الحقيقي لكفاية الأداء والقدرة على بلوغ الأهداف مع الحفاظ على الجمع بين تحديث الثقافة الذاتية وتأصيلها في نفوس النشء.
ويكفي أن نسوق المثال على ذلك بما جاء في ديباجة التقرير النهائي للجنة تقييم مؤسسات التعليم النظامي في الولايات المتحدة الأمريكية من أنه لو قامت (قوة معادية) بفرض أداء تعليمي قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة للحرب، ولكن ذلك يحدث الآن من خلالنا نحن الذين سمحنا به. لقد بددنا هدرًا المكاسب التي حصلنا عليها في رفع مستوى التحصيل التعليمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي (سبوتنيك).
إن هذا التدني في قبول تلك المستويات من التعليم عمل بلا تفكير وعملية نزع لسلاح التعليم. وعندما يقترح هتشنجر Hichinger، أحد أعلام التربية الأمريكيين، تصورًا لإصلاح التعليم يقضي باعتبار المدرسة الثانوية المخطط لها بعناية فائقة في أوروبا مثالًا يجب أن يحتذى في أمريكا، فإنه يواجه باعتراضات شديدة على أساس أن هذا التصور لا يلبي حاجات طلاب التعليم العام في أمريكا من الأقليات التى تنتمي إلى أصول ثقافية مختلفة؛ ولهذا فهو لا يخدم مواقع العمل في الثقافة الأمريكية المعاصرة التى تتسم بالتقدم العلمي والتقني، فضلًا عن أنه يعكس ظلال الثقافة الغربية بوجه عام، ويحرم الأمريكيين من التعرف على ثقافات الأمم التى تؤدي فيها أمريكا دورًا ما، قل أو كبر.
وإذا ما انتقلنا الآن إلى استعراض سريع لواقع التعليم العام في الأمة العربية والإسلامية، فإن النشرات الإحصائية توضح لنا أن جهدًا ملحوظًا يبذل في تعميم التعليم وتوسيع رقعة انتشاره، لكن الدراسات التحليلية والتقويمية تؤكد لنا أن هذا التطور الكمي لا يواكبه تطور نوعي يفي باحتياجات الأمة ويقيلها من عثرتها. وأن الفجوة واسعة بين الهدف والتطبيق.
وتعزو الدراسات العالمية المقارنة هذا العجز الذي يصيب نظام التعليم العام في دول العالم الثالث عمومًا إلى أن كثيرًا من الدول النامية قد غدت معرضًا عالميًّا كبيرًا لأشتات من النماذج والفلسفات التعليمية الوافدة من كل أنحاء العالم الصناعي، وأنها تحاول تطبيقها كما هي، أو مرتدية شعارات التجديد والتطوير في بيئة تختلف عن بيئاتها الأصلية.
والآن، إذا ما أردنا أن نستفيد من تجارب المجتمعات المتقدمة في اعتبار التعليم العام أداة لتأكيد الهوية الثقافية وتجديدها، يكون علينا أن نعول على ثقافتنا الإسلامية ونلجأ إلى أسلمة العلوم وننطلق من التصورات والمعتقدات والقيم التى يؤمن بها أبناء أمتنا الإسلامية لتكون زادهم الحقيقي في العمل والكفاح من أجل حياة أفضل.
ويتفق المفكرون الإسلاميون وعلماء التربية الإسلامية على أن غاية التربية الإسلامية العليا هي بلوغ الكمال الإنساني؛ لأن الإسلام نفسه يمثل بلوغ الكمال الديني، مصداقًا لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3).
منهج إجرائي لإسلامية المعرفة الكونية
ويمكننا أن نُجمل الخطة الإجرائية بشأن أسلمة العلوم الكونية في الخطوات التالية:
1- إيجاد حل لمشكلة الازدواج التعليمي في العالم الإسلامي، والمتمثلة في وجود نظامين، أحدهما ديني والآخر (علماني)، حيث لا يمكن أن يكون هنالك أي أمل في إحياء حقيقي للأمة ما لم يستحدث لها نظام تعليمي واحد ينبع من الروح الإسلامية ويعمل باعتباره وحدة متكاملة مع برنامج الإسلام العَقَدِيّ.
إن الحالة الراهنة لازدواجية التعليم لا تساعد على غرس الرؤية الإسلامية المستنيرة لدى طلاب العلم الذين يتعرضون في قاعات الدرس، ومن خلال الكتب المقررة إلى مفاهيم غريبة تقدم إليهم باسم العلم والمدنية الحديثة.
وبطبيعة الحال، يكون ارتباط مثل هؤلاء الطلاب بالموقف الإسلامي وليد عاطفة لا قناعة واعية، ويصبح التزامهم بالإسلام أضعف من أن يصمد أمام الهجمة العنيفة لما يقدم زيفًا على أنه الحقيقة (العلمية) أو (الموضوعية) أو (العصرية).
لهذا، وفي غياب أية مفاهيم وحجج إسلامية مقابلة تطرح بنفس القوة من الموضوعية والعلمية وبنفس الروح العصرية، تبدأ عملية إبعاد الطلاب عن جذورهم الإسلامية، ويسهل استسلامهم إلى الادعاءات اللادينية وتقبلها، وبعد سنوات من هذا التأثير، إضافة إلى تأثير مماثل، إن لم يكن أقوى، من جانب وسائل الإعلام ومن الأقران، يكون الوعي الإسلامي لدى الطالب المسلم قد تعرض للتخريب، ولا غرابة بعد ذلك في أن يصبح ذا نزعة مادية وساخرًا مما حوله، لا هو بالمسلم السوي، ولا هو بالغربي.
2) العمل على زيادة التقارب بين علماء الدين الإسلامي والعلماء المتخصصين في العلوم الكونية، فهم جميعًا مطالبون بأن يشغلوا أنفسهم بإعادة فحص شاملة للثقافة الإسلامية؛ لفهمها وتشربها والتكامل معها. يجب عليهم أن يؤمنوا أولًا بحقيقة العلاقة بين العلم والإسلام، وأن يعملوا كفريق واحد ينطلق في تفكيره من مسلمات واضحة تقرر أن علوم الوحي لها مكانة متفوقة في المجتمع الإسلامي، وكل الإرشادات والتعاليم يجب أن تنبثق منها وتأخذ من معينها، وتقرر في الوقت نفسه أن التوجيه الإسلامي للعلوم الكونية الحديثة إنما يعني ذلك المجهود الذي يستوعب هذه العلوم داخل هيكل إسلامي بهدف الإفادة منها لجني أكبر مردود للمجتمع المسلم.
3) القيام بمسح شامل لكتب ومخطوطات التراث العلمي للحضارة الإسلامية، وإعادة صياغتها وتحقيقها بلغة العصر وأسلوبه ومصطلحاته بواسطة علماء متخصصين، بهدف تنقية هذا التراث من مزاعم المستشرقين والمؤرخين غير المنصفين، وأيضًا للوقوف على ما به من نظريات وآراء علمية ذات قيمة معرفية أو منهجية في تاريخ العلم والحضارة.
ويمكن الاستعانة بالحاسب الآلي وتطوير وسائله لخدمة أغراض المسح الشامل لكتب التراث وإحصاء النصوص الإسلامية وتصنيفها، وبذلك يسهل التعامل معها والانتفاع الكامل بها في إطار تصنيف جديد للعلوم يستند إلى المفهوم الإسلامي للعلم القائم على وحدة العقل الإنساني وتضافر جميع ملكاته من أجل تحصيل العلوم وتطويرها.
4) اعتماد اللغة العربية لغة للعلوم والتقنية في جميع مراحل التعليم، بما فيها مراحل التعليم العالي والدراسات العليا؛ فاللغة صورة من حياة أصحابها، ترقى برقيهم وتتخلف بتخلفهم، وحين كان العرب متقدمين بالإسلام تقدمت بهم لغتهم.
فحين تخلفوا عنه تخلفت بهم أيضًا، ذلك أن قَدَرَ هذه العربية أنها وعاء الإسلام الحنيف، هكذا كانت في غابر الزمن، وهكذا تكون إلى أبده، بل إن الإسلام دفع بالعربية إلى ارتياد آفاق العلوم الكونية حتى صارت لغة العلوم والتقنية كما هي لغة الدين والأدب، وامتد نفوذها من المحيط إلى الخليج، حتى أصبحت لغة دولية للعلم والحضارة.
وقد استفادت أوروبا عبر التاريخ من العلوم العربية الإسلامية، وخاصة في مجالات الفلسفة والعلوم التجريبية. كما تركت اللغة العربية آثارًا على لغات أخرى غربية، وكانت تدرس في الجامعات الأوربية. ولم يطرأ على العربية شيء يخلع عنها هذا الثوب الذي كساها به الإسلام، فهي لغة صالحة لتكون لغة العالمين، صلاح الإسلام ليكون دينًا للعالمين.
لكن نجاح هذه الخطوة المهمة في عملية التوجيه الإسلامي للعلوم مرهون باتخاذ خطوة أخرى مماثلة لا تقل عنها في الأهمية، وهي تنشيط حركة الترجمة والتعريب من اللغات الحضارية الأخرى، وهذا يؤكد بالضرورة أهمية دراسة وإتقان اللغات الأجنبية، خاصة وأن دراستها تعتبر مطلبًا أساسيًّا لإعداد المترجم الجيد من اللغة العربية وإليها.
5) التأكيد على ضرورة التفتح على العلوم النافعة في الثقافات والحضارات الأخرى، وأن نعرف ماذا نأخذ وماذا نترك منها، وأن نتفاعل معها ونفيد من علومها وفنونها ومناهجها، فالإسلام يخبرنا أن الحكمة ضالة المؤمن، عليه أن يلتقطها أنى وجدها.
ولا شك أن إحدى الخطوات الإجرائية المهمة في منهج التوجيه الإسلامي للعلوم تتمثل في البدء فورًا في إعداد وتنفيذ برنامج ترجمة لأمهات الكتب العلمية في العالم إلى اللغة العربية، على أن يتم فحصها جيدًا بواسطة علماء متخصصين لتنقيتها مما بها من ألفاظ وعبارات لا تتفق مع الإسلام، وذلك على هيئة تعليق للترجمة بهوامش الكتابة، خاصة وأننا نرى تجاهلًا ملحوظًا لدور العلماء المسلمين في الوقت الذي يحرص فيه المؤلفون لهذه الكتب على تمجيد دور علمائهم القدامى والمحدثين.
6) إعداد مناهج جديدة للعلوم في مختلف مراحل التعليم العام من منظور إسلامي. وهذه الخطوة ذات أهمية خاصة؛ لاعتقادنا بأن المناهج والكتب الدراسية هي في النهاية المحصلة الأكثر موضوعية للعملية التعليمية، وأن تفحصها من شأنه أن يلقى أضواء كاشفة على موضوعنا.
ومن يتفحص الإطار الحالي الذي توضع فيه العلوم ومناهجها سوف يجد أنه يستند إلى فلسفة مادية علمانية ترى أن الظواهر الكونية ينبغي أن تفسر بأسباب من داخل الكون ولا دخل فيها للإرادة الإلهية ولا التجارب الروحية.
وهذه الفلسفة المادية لا يقتصر دورها عند هذا المعنى اللاديني، بل إنها تتجاوزه وتنهج نهجًا معاديًا للدين، ينتقده أنصارها باسم العلم ويهاجمونه ويسعون لمحاصرته ويعملون جاهدين على إبعاده عن مجال العلم.
نماذج لأسلمة نظريات وعلوم معاصرة
1) يأتي في مقدمة نماذج أسلمة العلوم الكونية ما يعرف بالنظرية الذرية: فقد نشأت فكرة (الذرة) في تفكير الإنسان لأول مرة عندما واجهته أول مشكلة فلسفية تتعلق بالتساؤل عن مبدأ الكون، أو المادة الأولى التى نشأ منها الكون، وعن مدى إمكانية تقسيم المادة وصولًا إلى الجزء الأصغر منها، ويبدو أن هذا التساؤل كان بدوره نتيجة منطقية لاعتقاد مؤداه أن فهم الكون يتطلب معرفة بعض الشيء عن أجزائه الصغرى، وهو اعتقاد فطرى صحيح إلى حد كبير ولا يزال له انعكاس فيما يتردد الآن من نظريات معاصرة حول أصل الكون ونشأته، بعد أن زاد عليه (هيزنبرج) بقوله: «إن فهم أي شيء عن تركيب الظواهر الطبيعية يتم عن طريق اكتشاف العلاقات الرياضية المعبرة عن أجزائها الصغرى».
وتنسب النظرية الذرية في نشأتها عادة إلى فلاسفة الإغريق، ولا يزال منهجهم الذري يحظى باهتمام كبير من جانب بعض المؤرخين الذين يعرضون لتاريخ النظرية الذرية بالتحليل والتأصيل. لكن الأمر من جانبنا- نحن المسلمين- ينبغي أن نتناوله بكل الحذر، ولا نبالغ في تقديره فوق ما يجب؛ لأن هذا قام على كثير من الخيال ومن الجدل النظري العقيم، ولم يقم على منهج علمي منظم، وهو بعيد كل البعد عن المدرك المعاصر في تركيب المادة وبناء الذرة، فضلًا عن أنه يستند عند أنصاره ويذهب بهم إلى أقصى حدود النزعة المادية الآلية التى تسيّر- في نظرهم- جميع الأشياء بحتمية القانون الطبيعي.
وقد اطلع المسلمون الأوائل على آراء فلاسفة الإغريق في (الذرة) أو (الجوهر الفرد) أو (الجزء الذي لا يتجزأ) من خلال مترجماتهم إلى اللغة العربية، وخاصة ما جاء عن المذهب الذري لديمقريطس في كتاب (المتيافيزيقا) وأرسطو في كتاب (النفس).
وكان طبيعيًّا أن يتبرأ مفكرو الإسلام من هذا المذهب الذي يجحد أصحابه الصانع المدبر للعالم، وينكرون وجود الخالق الواحد جل وعلا، كما ينكرون النبوة والبعث والحساب. وقد وصفهم الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال بـ(الزنادقة)، كما وسموا (بالدهرية) الذين عناهم القرآن الكريم بقوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّون} (الجاثية: 24).
ب) علم البصريات: وهو أحد المباحث الفيزيائية الذي يعنى بدراسة نظرية الضوء وخواصه وظواهره وتطبيقاته. وتكمن أهمية هذا البحث في أن أي تقدم يحرزه المتخصصون فيه ينعكس مباشرة على باقي فروع العلم، وهل تقدمت أبحاث الفضاء وعلوم الفلك والكيمياء والطب والصيدلة والجيولوجية والنبات والحيوان وغيرها إلا بتقدم أبحاث الضوء وتقنية البصريات؟! وقد كتب الكثير من علماء المسلمين في هذا الفن تحت اسم (المناظر) ويتضمن كتاب (المناظر) للحسن بن الهيثم تفصيلات للعديد من الموضوعات التى تشكل ما نعرفه اليوم باسم (البصريات الهندسية).
ومن أهم ما جاء به الحسن بن الهيثم في هذا المجال، وما نعتبره ثورة علمية بكل المقاييس التى وضعها فلاسفة العلم ومؤرخوه، هو أنه اتبع منهجًا استقرائيًّا دقيقًا لتحقيق نظريته الجديدة في الإبصار على أساس الشروط أو (المعاني) التى لا يتم الإبصار إلا بها، وهي أن يكون الجسم المرئي مضيئًا بذاته أو بإشراق ضوء عليه، وأن يكون بين الجسم المرئي والعين بعد ما، وأن يكون الوسط الفاصل بينهما مشفًّا، وأن تكون المرئيات ذات حجم وكثافة يسمحان للعين بالإبصار، وأن تكون العين خالية من عيوب الإبصار.
ج) علم الصوت وتقنية الصوتيات: لم يصلنا شيء ذو قيمة علمية عن اهتمام أهل الحضارات القديمة بدراسة ظاهرة الصوت وتطبيقاتها، اللهم إلا فيما يتعلق ببعض أنواع الغناء والعزف (الموسيقى)؛ ولهذا فإننا لا نستطيع أن نبدأ الحديث عن مبحث (الصوتيات) إلا من حيث بدأ علماء الحضارة الإسلامية في تناول ظاهرة الصوت بالدراسة والتحليل على أسس منهجية سليمة. فقد أجمعوا من حيث المبدأ على أن هناك شيئين ضروريين لانبعاث الصوت وانتشاره.
أما الشيء الأول فلا بد من وجود جسم يهتز لإحداث موجات الصوت (التضاغطية)، على نحو ما نجد في وتر العود أو الأوتار (الحبال) الصوتية عند الإنسان. وأما الشيء الثاني فلا بد من وجود وسط مادي، كالهواء أو الماء تنتقل خلاله هذه الموجات الصوتية إلى أن تصل إلى الأذن ويحدث الإحساس بالسمع.
والتجربة البسيطة التى يجريها الطلاب في المعمل للتأكد من صحة هذه الحقيقة العلمية تتمثل في وضع ناقوس زجاجي فوق ساعة (منبه) به جرس يدق، واستخدام مضخة هوائية لتفريغ ما يمكن إفراغه من هواء الناقوس. وعندما يسمح بدخول الهواء تحت الناقوس مرة أخرى يلاحظ أن صوت دقات الجرس يخفت رويدًا رويدًا أثناء تفريغ الناقوس من الهواء، ثم يشتد الصوت عندما يدخل الهواء في الناقوس. كذلك أجمع علماء المسلمين على تفسير جيد لحدوث (الصدى) نتيجة انعكاس الموجات الصوتية عندما يعترض مسارها عائق، فتحدث في ارتدادها رجعًا يشبه الصوت الأصلى.
ومن أوضح النصوص التى وردت في تراثنا الإسلامي عن طبيعة الصوت والصدى ما ذكره بهمنيار ابن المرزبان في كتابه (تحصيل بهمنيار)، من أن: (الصوت أمر يحدث من تموج الجسم السيال الرطب كالهواء والماء بين جسمين متصاكين متقاومين. وأما الصدى فإنه يحدث من تموج يوجبه هذا التموج، فإن هذا التموج إذا قاومه شيء من الأشياء كجبل أو جدار حتى دفعه، لزم أن ينضغط أيضًا بين هذا التموج المتوجه إلى قرع الحائط أو الجبل وبين ما يقرعه هواء آخر يرده ذلك ويصرفه إلى خلف بانضغاطه، ويكون شكله شكل الأول وعلى هيئته).
وقد أفاد المسلمون من فهمهم الواعي لأساسيات مبحث (الصوتيات) في مجالات نظرية وتطبيقية متنوعة لا يتسع المجال هنا لشرحها بالتفصيل، ويكفي أن نشير هنا على سبيل المثال إلى دور علماء المسلمين في تطوير تقنية الهندسة الصوتية واستخدامها فيما يعرف الآن باسم (الصوتيات المعمارية)؛ وذلك أنهم عرفوا أن الصوت عندما ينعكس عن سطح مقعر فإنه يتجمع في بؤرة محددة، شأنه في ذلك شأن الضوء الذي ينعكس عن سطح مرآة مقعرة.