أنا شاب في العقد الرابع من عمري، شقيق وحيد لبنتين تصغراني، نشأت في بيئة مستورة الحال، تعب أبي كثيرًا ليُوفر لنا كل ما نحتاجه في دراستنا وحياتنا، فقد أعطاني والدي من العطف والحنان والدلال فوق ما أريد، غير أنّ عاطفتي دائمًا كانت تذهب بعيدًا، فكان جل وقتي للأصدقاء، وحياتي كانت مُقسمة بالتساوي بينهم وبين دراستي ومنامي، وكم كنت أسمع والديّ يناديان عليّ لحظة خروجي للسهر للجلوس معهما ولو ساعة مما أجلسه مع أصدقائي، فأحيانًا أجيبهما متأففًا ثمّ أنصرف، وأحيانا أخرى أتعلّل لهما بأنّ أصدقائي ينتظرونني. حتى في أوقات احتياجهما الحقيقي لي كالمرض وقضاء الحاجات.
ومرّت حياتي على هذه الوتيرة حتى رنّ جرس الهاتف يومًا ما، واذا بشقيقتي الصغرى تقول لي (أخي مات والدنا .. تعال بسرعة). لقد مات أبي حقًا!
أكتب الآن لا لتواسيني فمصابي أكبر من أن أواسى فيه، إنما أكتب إليك لتخبر قرّاءك الأعزاء أن يعضوا على آبائهم بالنواجذ، ولتدلني على ما يُمكن أن أعوض به والدي شيئًا من حقه عليّ وتقصيري نحوه، علمًا بأنني الآن أكاد أنام تحت قدمي أمي محاولًا تعويضها بعض جفائي السابق، فهل من وصية تريح نفسي وتنفعني لتقديم بعض حقوقه عليّ؟
الإجابة:
أعلم كم يترك الشعور بالنعمة بعد زوالها حسرة وألمًا، لكن النعم من طبيعتها الزوال، وقد يكون عدم شكرها سببًا في زوالها كما في القول الشهير: (الشكر قيد النعم)، وكما قال ابن عطاء الله السكندري في حكمه: (من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها)، وفي هذا لطف لله بالعبد لأنه أذهب عنه ما كان غافًلا عنه ليرده ولم يمد له في غفلته، وشُكر أي نعمة يكون بمراعاة حق الله فيها وما أمر به سبحانه تجاهها.
لذلك فإن عليك أن تحمد الله على ثلاثة أمور، أولًا: أنّ الحال لم يكن معكوسًا، لم يكن أنت من قابلت ربك، لأن هذا هو الحال الذي لا ينفع معه ندم، لهذا فإننا نحمد الله كل يوم عندما نستيقظ: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) على الفرصة التي تتجدد باستيقاظنا للعمل والتوبة، لا يزال لديك أنفاس وكتاب أعمالك لا يزال مفتوحًا لتسطر فيه.
ثانيًا: تحمده، أن أبقى لك أمك – أطال الله عمرها- تعايش معها وتعوض معاني البر التي فاتتك مع أبيك، وقد جاء صحابي يسأل رسول الله الجهاد معه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة فسأله عن أمه أما زالت حية؟ فقال: نعم، فقال له رسول الله: (ويحك الزم رجلها؛ فثَم الجنة).
وثالثًا: يجب أن تحمد الله أن جعل لك في وفاة أبيك عبرة وعظة وإنابة، فكثيرون قد تمر عليهم هكذا عبرة فلا يعتبرون ولا يراجعون أنفسهم وحالهم مع البر، بل وقد يعتبرون أن همًّا قد أزيل عن كاهلهم.
والبشارة التي يجب أن تحمد الله عليها – أيضًا- أن أباك ما زال بإمكانك بره، وقد أحسنت صنعًا برعايتك وبرك بأمك من بعده، وهكذا برك وإحسانك بإخوتك وأرحام أبيك وكثرة الدعاء له، فقد ثبت عن رسول أنّ رجلًا سأل النبي عن بر أبويه بعد وفاتهما فقال رسول الله: (الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
وما دمت أردت برسالتك أن تنبه غيرك – وخيرًا فعلت- فإنه من الضروري أن نعي أنّ مناط الأمر في تحقيق قيمة التوازن، معلوم أنه يأتي وقت يمثل فيه الأصدقاء أهمية قصوى في حياة بعضهم، وبخاصة في مرحلة المراهقة والمرحلة الجامعية، لكن إذا تدرّبنا منذ الصغر أننا في كل مرحلة يكون لنا دوائر وواجبات مختلفة يجب أن نراعيها جميعها، والتي يشبهونها بما يعرف بـ(عجلة الحياة)، يجب أن تتساوى أو تقترب من التساوي تروسها حتى يمكنها أن تدور، فلا تعطي أولوية لجانب على حساب الآخر، وهذا ما نصّ عليه قول سلمان الذي صدّقه رسول الله فيه حين قال لأبي الدرداء: (إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه). هذا مبدأ علينا أن نُربي أنفسنا وأبناءنا عليه منذ الصغر، وهذا ما يجب أن يراعيه السائل حتى لا يقع فيما وقع فيه سابقًا وهو يحاول بر أمه هذه المرة فيجور على باقي أصحاب الحقوق عليه.
يجب أن نعلم – أيضًا- أنّ بر الآباء قيمة توطن عليها النفس ولا نستطيعها فطرة، على العكس فإن حب الأبناء وحب رعايتهم فطرة ربانية، أمّا بر الآباء فيحتاج لمجاهدة وتذكير وعرفان بالجميل ومعرفة بالفضل، لذلك ما أكثر ما وجّه الشرع المسلمين للبر وذكرهم بفضله في كثير من آيات القرآن وأحاديث النبي وكثيرًا ما أورده الإسلام في المرتبة الثانية بعد النهي عن الشرك مباشرة لعظمه كما قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، كما أنه من الأمور التي لا تبلى سواء برًّا أو جفاءً، فمن يزرع برًّا يحصد برًّا ومَن قدّم القسوة والمجافاة لأبويه كذلك يجد في أبنائه.
لذلك فهو من الأمور التي يجب ألا يخلو منها دعاؤنا أن يرزقنا الله العون على برّهم وحسن مصاحبتهم وتقدير فضلهم شبابًا والرفق بعجزهم شيوخًا، لننال موعود النبي الذي قاله لأصحابه عندما نام فرأى كأنه في الجنة يسمع قرآنًا يتلى وعندما سأل فعرف أنه صوت الصحابي حارثة بن النعمان الذي اشتهر ببره لأمه فقال – صلى الله عليه وسلم-: (كذاك البر كذاك البر)، أي هكذا يفعل البر بأصحابه.