تعيش كل أسرة على وقائع الأحلام حينما يُزف إليها أنّ الزوجة تحمل طفلًا في رحمها، فيستَعد البيت لاستقبال هذا الطفل المنتظر، وما إن يصل حتى يمتلئ أركان البيت بالبهجة والفرحة والسرور. ويتكرر المشهد في كل مرة تُبشر الأسرة فيها بحمل جديد يبذل فيه الزوجان سبل الراحة والتهيئة لاستقبال مولودهما الجديد.
وقد يختبر الله- سبحانه وتعالى- الوالدين بطفلٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة ما قد ينقلب معه الفرح إلى حزن يُؤدي إلى استجابات انفعالية لدى الزوجين، وتتأثر طبيعة استجابة الأبوين بنوع الإعاقة ودرجتها، وبثقاَفة الأبوين، وغيرها من الأمور، وما سيشكله كل ذلك من ضغوط.
مفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة
ظهر مصطلح (ذوي الاحتياجات الخاصة) في تسعينات القرن العشرين ليحل محل الوسم (معاق) الذي يُعرف به أولئك الذين ابتلاهم الله بعجزٍ كليّ أو جُزئي في القدرات الجسمية أو العقلية، أو الحسية، أو الخصائص السلوكية، أو اللغوية، أو التعليمية التي تُميّز حاملها عن الأطفال العاديين.
ويُفضل التربويّون مصطلح الاحتياجات الخاصة لرقّة تعبيره، الذين عرّفوه بأنه الطفل أو الفرد الذي لا يستطيع القيام بممارسة بعض الأنشطة، ولا يستطيع اكتساب الخبرات بالأساليب المتاحة للشخص العادي (1).
وفي المجتمعات القديمة لم تكن الإعاقة أمرًا مقبولًا، بسبب طبيعة الحياة المتطلبة لقوة البدن ليستطيع الفرد القيام بالأعمال، كما كانت تسيطر عليها الروح العسكرية، لذا عانى ذوو الاحتياجات الخاصّة الكثير من الاضطهاد والظلم والنبذ والإهمال في حياتهم، بل ربما يُقتلون دون رحمة، وهو ما جرّمه الإسلام حينما ظهر.
لكن مع تطور الحياة، اهتم الكثيرون بعلم الاجتماع والعناية بالإنسان وأهميته في تطوير المجتمعات، لذا فقد اهتم بكل فردٍ حتى الأفراد الضعفاء والعاجزين، لتخليصهم من الظُلم وضمان حقوقهم، وتوفير الوسائل المختلفة لمساعدتهم على التكيف والاستفادة من طاقاتهم(2).
رحمة الإسلام بذوي الاحتياجات الخاصة
لقد اهتم الإسلام بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وراعى شعورهم في كل المواقف، قال الله- تبارك وتعالى- عنهم: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17].
وفي الحديث النبوي، يشدد النبي- صلى الله عليه وسلم- على قيمتهم وعظيم فضلهم على البشرية، فَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ” (رواه البخاري)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ” (رواه النسائي، وصححه الألباني).
وفي الحادثة الشهيرة، التي عبس فيها النبي- صلى الله عليه وسلم- بوجهه أمام رجل أعمى- وهو عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه-، فما كان من الله- جل وعلا- إلا أن عاتب نبيه، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَهُ يَزَكَى} [عبس:1-3](3).
موقف الصحابة من ذوي الاحتياجات الخاصة
كان بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- من ذوي الاحتياجات الخاصة أمثال عمرو بن الجموح الذي أراد أن يطأ الجنة بعرجته، وعبد الله بن أم مكتوم الذي كان أعمى، والإمام الأعمش، وميمون بن مهران الأعرج وغيرهم.
لذا، سار الصحابة والتابعون على نهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في التعامل بكل حبٍّ مع هذه الفئة من الناس، فها هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- أصدر قرارًا إلى الولايات التابعة: “أن ارفعوا إليَّ كُلَ أعمى في الديوان أو مُقعَد أو مَن به فالج أو مَن به زمانة- أي: العاهة أو المرض المزمن- تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه”، وأمر لكل كفيف بموظف يقوده ويرعاه، وأمر لكل اثنين من الزمنى- أي: أصحاب الأمراض المزمنة- بخادمٍ يخدمه ويرعاه.
وعلى الدّرب نفسه، سار الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك- رحمه الله-، فهو صاحب فكرة إنشاء معاهد أو مراكز رعاية لهؤلاء الناس، فأنشأ [عام 707م – 88هـ] مؤسسة متخصصة في رعايتهم، وظّف فيها الأطباء والخدّام وأجرى لهم الرواتب، ومنح راتبًا دوريًّا لهم، وقال لهم: “لا تسألوا الناس”(4).
ذوو الاحتياجات الخاصة في الغرب قديما
على النقيض، إذا نظرنا إلى تاريخ الغرب مع ذوي الاحتياجات الخاصة نجد مجتمعات أوروبا القديمة، مثل: روما وإسبرطة قد شهدت إهمالاً واضطهادًا صارخًا لهم، فلقد كانت هذه المجتمعات تقضي بإهمال أصحاب الإعاقات بل وإعدام الأطفال المعاقين. وكانوا يعتقدون أنهم السبب الرئيسي في الانتكاسة التي تحدث لهم، وأن الشياطين تتقمصهم، كما تبنى الفلاسفة والعلماء الغربيون هذه الخرافات(5).
فالأعمى في نظر هذه المجتمعات كان يمثل ظلامًا، والظلام شر، والمجذوم هو الشيطان بعينه، ومرضى العقول هم أفراد تتقمّصهم الشياطين والأرواح الشريرة، بل إن تراث الإغريق وفلسفتهم كانت تسمح بالتخلص ممن بهم نقص جسمي، ووافق على ذلك (أفلاطون) و(أرسطو) اللذين اعتَبرا أن هذه الفئة تشكل عبئًا على المجتمع.
وعندما أراد أفلاطون أن يُنشئ في مدينة أثينا جمهوريته الفاضلة، كتب أنّ وُجود المعاقين وتناسلهم يؤديان إلى إضعاف الدولة التي يريدها، فدعا إلى إبعادهم ونفيهم خارج البلاد حتى لا يبقى في الدولة إلا الأذكياء والقادرون على الإنتاج أو الدفاع عنها أو حكمها.
بل إن الكنسية، في ذلك الوقت، كانت تُصدر أحكامًا على المتخلفين عقليًّا بسجنهم وتكبيلهم وتعذيبهم بشتى ألوان العذاب “لعل الشيطان يهرب من أرواحهم” ويترك هذا الجسد المعذب.
وهذه النظرة الدونية لأصحاب الإعاقات اصطحبها الغرب معه في العصر الحديث، ولم تنتبه الدول إلى الظلم الواقع عليه إلا مؤخرًا، فها هو هربرت سبنسر، الفيلسوف البريطاني، قد نادى بصراحة بإبطال تقديم المساعدة عمدًا لفئات العجزة وغيرهم، لأنّ “الفئات الكسيحة” في رأيه تُثقل كاهل الطبقة النشطة بأثقال لا نظير ولا مبرر لها.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، جاء الاهتمام بهذه الفئة متأخرًا، فنص قانون الأمن القومي لعام 1935م الذي عُدّل في عام 1939م على أهمية تقديم خدمات طبية وتأهيلية لما بعد العلاج للمعاقين.
دور الأسرة في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة
لا تستطيع أي مؤسسة عامة أن تقوم بدور الأسرة في المراحل الأولى من احتضان الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وتلبية مطالبهم، ولا يُتاح لهذه المؤسسات مهما حرصت على تجويد أعمالها أن تُحقق ما تحققه الأسرة في هذه الأمور، كون تربية وعناية طفل من هذه الفئة كبيرة وعظيمة، وتحتاج لجهد مضاعف.
فإدماج الطفل من ذوي القدرات الخاصة في الحياة يبدأ من داخل الأسرة وبإدماج الأم أولاً، وللوالدين دور كبير في تنمية وتعديل سلوك الأبناء من هذه الفئة، وهذا يتطلب:
- سعي الوالدين لمعرفة جميع المعلومات المتوفرة عن إعاقة ابنهم وسبل العلاج والتكيف والتعامل مع الحياة ومع الأطفال الآخرين.
- يجب على الوالدين تفهُّم مشاعر وأحاسيس الطفل المُعاق، ومن ثمّ التحلي بالصبر على تصرفاته، وبطء استيعابه، وغَمره بالحب.
- تكيف الأسرة مع هذا الواقع، والعمل على حُسن الاستفادة منه وتنمية مهاراته ومعاونته على الاندماج في المجتمع بتشجيعه وإلحاقه بالمدارس الخاصة به.
- ضرورة طلب المساعدة من المتخصصين في هذا المجال سواء الجسم الطبي أو المعالج النفسي.
- على الأهل ألا يخجلوا من طفلهم ويساعدوه على الانخراط في الحياة اليومية من خلال الممارسة اليومية لأبسط الأمور، فكلما تقبل الأهل وضع طفلهما كلما تقبّل طفلهما حالته والعكس صحيح.
- عدم عزله في المنزل أو الخجل منه، من باب حمايته من قسوة العالم الخارجي، بل مساعدته على الاندماج في المجالات الطبيعية للحياة.
- عدم تحميل باقي الأبناء مسؤوليات العناية بشقيقهم، لأنّ ذلك سينعكس سلبًا على حالتهم النفسية.
- يجب أن يُتاح أمام الطفل فرصة إبراز شخصيته المستقلة عن الأسرة(6).
دور الأم في احتضان طفلها صاحب القدرات الخاصة
لا شكّ أنّ ميلاد من ذوي الاحتياجات الخاصة في الأسرة يُعد صدمه على الأم أكثر من أي فرد آخر، لذا يجب عليها:
- تجاوز حالة الاكتئاب والإحباط التي تُعاني منها، نتيجة الصدمة أو شعورها بالذنب، والتأكيد على أنّ هذا قدر الله، وتعد هذه الخطوة أولية في هذا المشوار الطويل.
- لا بُد من أن تُغيّر الأم قناعتها ونظرتها إلى طفلها المعاق حتى تتقبله وتعمد إلى حسن احتوائه، وإغراقه بالحب والحنان، لأنها من أهم وسائل دعمه وتطور حالته إلى الأفضل، فلغة الحب هي أرقى لغة للتواصل والتفاهم التي لا تحتاج إلى مهارات ذهنية أو قدرات خاصّة لتحدث التواصل المطلوب.
- عليها متابعة حالته طبيًّا ونفسيًّا مُنذ وقت مبكر حتى تستوعب أية مشكلة له وتحاول حلّها مبكرًا.
- تحلّي الأم بالصبر والعمل على منح الطفل فرصة للقيام بالعمل وحده، ثمّ تبادر بتقديم المساعدة له بالتدريج لحين أن يبدأ هو بالقيام بالعمل بنفسه مع تشجيعه الدائم.
- دفع الأب للمساهمة في تحمل المسؤولية لمساعدة الأم وتخفيف العبء عنها، وتهيئته وتغير قناعته نحو طفلهم المعاق.
- لا بُد من أن تُؤمن بأن طفلها كونه من ذوي القدرات الخاصة لا يعني نهاية الحياة، بل قد يكون بوابة لتغيير حياة الأسرة للأفضل(7).
مقترحات لتعامل المجتمع مع أصحاب القدرات الخاصة
ودور المجتمع في التعامل مع ذوي الاحتياجات مُهم للغاية، فهو الذي يسمح لهم بالتكيف والاستمرار رغم ما حل بهم من إعاقة، ومن أدواره:
- أن يتعامل المجتمع مع ذوي الإعاقة بشكل طبيعي لا على أنهم ناقصون أو يشكلون عبئًا عليه.
- تكاتف المجتمع ككل، لتوفير جوّ نفسي واجتماعي مناسب، لاستيعاب هذه الفئة.
- وقوف المجتمع مع ذوي الإعاقة في المطالبة بحقوقهم كأي مواطن.
- تقديم كل التسهيلات لهم في جميع القطاعات.
- دعوة الدولة لتوفير الاحتياجات اللازمة لذوي الإعاقة.
- تأكيد المجتمع من خلال نوابه في البرلمان على القوانين التي تحفظ كرامة هذه الفئة.
- اعتراف المجتمع بأن هذه الفئة عنصر لا يتجزأ عن المجتمع.
- على المجتمع إشراك الأشخاص ذوي القدرات الخاصة في سوق العمل حسب قدرة كل فرد منهم.
- ضرورة تربية وتأهيل الجيل المستقبلي على آليات التعامل مع هذه الفئة من الناس دون المساس بمشاعرهم.
- تخصيص ميزانية مقتطعة من ميزانية الدولة لتوفير العلاج ودعم الطموحات والآمال وتحفيز المواهب وتنميتها لدى هذه الفئة(8).
أخيرًا
فإنّ الإنسان مُبتلى في حياته، وقد يكون هذا البلاء بحرمانه من الأطفال، أو اختباره بطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة والذي يتطلب رعاية مستمرة، والمهم أنّ يتقبل قدر الله، ويُحسن التعامل معه، ولا بد من أن يستشعر أن هذا الطفل المُعاق لا ذنب له فيما هو فيه، وله حقوق يجب أن تُوفّى له، حتى يسعد بحياته ويُصبح شخصًا نافعًا لنفسه ومجتمعه.
المصادر والمراجع:
- عدنان ناصر الحازمي: التربية الخاصة: مفهومها، أهدافها، مبادؤها، مراحلها وروادها، يوليو 2012، https://bit.ly/35x9jTY
- نجاة ساس هادف: دور التكوين المهني في تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة من وجهة نظر الإداريين والأساتذة، أطروحة دكتوراه، كلية: العلوم الإنسانية والاجتماعية، جــامعة محمد خيضـــر بسكـــــرة، الجزائر، 2013، صـ187- 191.
- تيسير التميمي: رعاية الإسلام لذوي الاحتياجات الخاصة، https://bit.ly/3hEllx9
- قاسم حبيب جابر: الإسلام بين البداوة والحضارة، دار الكتب العلمية بيروت، 2002، صـ344.
- حسني الخطيب: التطور التاريخي للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، 11 سبتمبر 2016، https://bit.ly/35QuvUy
- كيف تتعامل الأسرة مع طفلها ذي الاحتياجات الخاصة؟: 5 نوفمبر 2012، https://bit.ly/3Ms9ZKM
- أمنية فايد: 10 نصائح تساعد الأم على رفع درجة كفاءة طفلها المعاق، 9 يناير 2013، https://bit.ly/3vFDX89
- تامر سلامة: ما دور المجتمع تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة؟، 24 جيسمبر 2018، https://bit.ly/3Ki3kB1
- التطور التاريخي للتعامل مع ذوي الإحتياجات الخاصة https://bit.ly/3MqcVrj.