تشير كثير من التقارير الصادرة حول التربية والتعليم في العالم العربي إلى الخلل الكبير الذي يسود منظومات التربية في العالم العربي، والسبب الرئيس في هذا الخلل هو أن التربية في العالم العربي لم تحظ بالاهتمام اللازم؛ نتيجة تغييب الإنسان حقيقة عن معادلات النهضة، ونتج عن هذا التغييب والتجاهل والتهميش للإنسان العربي واعتبار الشعوب مجرد قطعان تقاد بالرهبة = غياب الفلسفة التربوية الواضحة التي تقوم عليها الأنظمة التعليمية في هذه البلدان، وكان البديل أمام هذه الأنظمة هو الاستيراد غير الواعي للمناهج التعليمية من التربية الغربية وآرائها ومحاولة تركيبها على الشخصية العربية بواقعها المختلف وموروثاتها الثقافية المختلفة، فكانت النتيجة هذا التيه المعرفي الذي نعيشه والذي يراه كل ذي عينين.
المادية الدنيوية كأساس للحضارة الغربية
إن معرفة البيئة الفكرية والفلسفية التي أدت إلى تشكل نظريات التربية الغربية هو من الأهمية بمكان، حيث إن هذه البيئة هي التي رسمت معالم هذه النظريات ووضعت مسلماتها وحددت قضاياها، وهي المرجعية المعرفية التي صاغت مفاهيمها عن العالم والإنسان والتربية والأخلاق.
إن الأرضية التي قامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة هي المادية الدنيوية التي لا تعطي الدين في الحياة دورا مؤثرا وتعزله عن التأثير في الناس بينما تجعل للقيم المادية المكان الأول في حياة الفرد والمجتمع: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وقد نتجت هذه المادية اللادينية عن المعركة التي ثارت في أوروبا ضد الكنيسة ورجال الدين المسيحي؛ فقد كانت الكنيسة الأوربية في عصور ظلامهم شديدة القسوة على العلماء، وكانت تقمع كل محاولة للابتكار والاختراع والبحث في العلم؛ في سبيل أن تظل لها السيطرة الكاملة على الشعوب وقيادة الناس، وفي سبيل استمرار جباية الأموال، فقد حاكمت أكثر من تسعين ألفًا من العلماء بأحكام مختلفة في الفترة ما بين سنة 1481م إلى سنة 1499م، أي في غضون 18 سنة فقط، وهذا الواقع الرهيب الذي عاشته أوروبا نحو ألف عام من الزمان رسَّخ في أذهان العلماء والفلاسفة أمثال: ديكارت، وفولتير، وعموم الناس أنه لا أمل في طلب العلم والابتكار إلا بهدم سلطان الكنيسة، وإلا بمحو الدين تمامًا من الصدور، فأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل؛ لاحتوائهما على ما يتعارض مع الحقائق العلمية، ولاعتقادهم بأن الدين هو اضطهاد العلم والعلماء، وهو الحجر على العقول. وراحوا يدعون إلى إعلاء العقل في مقابلة النصوص الدينية، وحجتهم أن العقل يستطيع إدراك الحقائق العلمية، ويستطيع التمييز بين الخير والشر.
ديكارت وبيكون وصياغة العقلية الغربية
إن كان من رجل تدين له أوروبا بفلسفتها بعد أرسطو فهو رينيه ديكارت، الرجل الذي صاغ كل هذه النهضة الحديثة لأنه أول من صاغ معالم المنهج الرياضي، وكان يرى أنه ما من حقائق يمكن الوصول إليها ما لم تمر عبر الحساب والهندسة، وأنه ليس على طلاب الحقيقة أن يتعبوا أنفسهم في البحث عن أشياء لا يمكن إثباتها بالبرهان الرياضي، فكل ما لا يمكن إثباته بالبرهان الرياضي هو وجهة نظر تحتمل الصدق والكذب ولا يمكن التحقق منها على وجه اليقين أبدا.
وبعد رينيه ديكارت جاء فرانسيس بيكون ليضع معالم المنهج العلمي التجريبي لتحدث في أوروبا كل هذه الثورة التي كان أساسها منهج ديكارت العلمي الرياضي ومنهج بيكون التجريبي الاستقرائي، وهكذا أصبحت عقيدة أوروبا هي أن الحقائق إما رياضية وإما تجريبية استقرائية، وما خلا ذلك فأوهام وخرافات.
إن التغير الضخم الذي أحدثته فلسفة ديكارت أنها حولت غاية الإنسان في الحياة؛ فبعد أن كانت غاية الإنسان في كل الأديان ومعظم الفلسفات هي (التسامي والوصول إلى الفضيلة طلبا لسعادة الدنيا وجنة الآخرة)، أصبحت غاية الإنسان – بفعل التفكير الرياضي الصارم – (حاول أن تجعل نفسك مرتاحا قدر المستطاع)، ليظهر بعد ذلك الإنسان المشوه ذو البعد الواحد الذي لا يرى غير منفعته ولذته الآنية بلا ضابط ولا وازع، إذ أنه إذا تم تجاهل البعد المتسامي في الطبيعة الإنسانية فلا يمكن وصفها إلا بكلمة (حيوان) بغض النظر عما يليها من أوصاف، وبالتالي فقد الإنسان العصري القدرة على الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي لا تخضع للمنطق الرياضي والقياس الكمي، وانغمس في أمواج من اللذات الحسية والبحث عن المتعة في كل سبيل محاولا بذلك تعويض نفسه عن الإجابات المفقودة.
الإنسان والعالم في الفلسفة الغربية
رفضت الفلسفات الغربية الحديثة نظرية (الخلق) التي تجمع عليها الأديان كتفسير لأصل الإنسان وبداية وجوده على الأرض، وكذلك رفضت تصور أن الإنسان مزدوج الطبيعة؛ جسد وروح، الجسد من الطين والروح نفخة علوية من الخالق العظيم، يشترك في طبيعته الجسدية مع الحيوانات، ويشترك في طبيعته الروحية مع عالم السماء، وأي طبيعة غلبت عليه اقترب من أصحابها، رفضت الفلسفات الغربية كل ذلك مع ما رفضته من التراث الديني الكنسي وغير الكنسي.
وقدمت بدلا من ذلك تفسيرا ماديا للوجود وللعالم وللإنسان؛ تمثل في نظرية (النشوء والارتقاء) ونظرية (السلف المشترك)، وتقول نظرية (النشوء والارتقاء) بأن نشوء أنواع الكائنات الحية ومن بينها الإنسان يتم بتطورها من بعضها البعض وبفعل عوامل عديدة منها الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح والأقوى، والقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، وتقول نظرية (السلف المشترك) بأن جميع الأحياء على سطح الأرض لها أصل مشترك، (رُجِّح بعد ذلك أن يكون هذا الأصل هو الكربون والماء)، وقد صاغ هاتين النظريتين عالم الأحياء الشهير (تشارلز داروين) في كتابه أصل الأنواع الذي صدر في العام ( 1859م)، وقد أثار الكتاب اهتماما عالميا وجدلا واسعا، وتميزت كثير من ردود الأفعال الأولية بكونها معادية ولكن داروين كان اسما بارزا ومقدرا في مجال العلم مما أضعف ردود الفعل الرافضة لآرائه، ولكن في النهاية أثرت هذه الآراء على جمهور واسع من عامة القراء فاعتقدوا أن قوانين الطبيعة تحكم الطبيعة ومجتمع البشر أيضا، وحظي الكتاب باهتمام عام وواسع حيث ارتبط بأفكار الإصلاح الاجتماعي، ورغم الانتقادات العلمية لها إلا أنها ما زالت إلى اليوم معتمدة في الأوساط العلمية الغربية وغيرها.
اعتمدت الحضارة الغربية الحديثة مناهج النظر الوضعية العلمانية كأساس للتفكير والبحث، وتعاملت وفق هذه المناهج مع الدين وحقائقه، فنظرت إلى الدين وموروثاته باعتباره فكرا غير علمي عبر عن مرحلة من مراحل تطور العقل الإنساني هي مرحلة طفولة هذا العقل، ثم تلت هذه المرحلة ونسختها مرحلة الميتافيزيقا، وهي الأخرى تلتها ونسختها المرحلة الوضعية التي جعلت الكون والواقع الدنيوي فقط – وليس الغيب – هو مصدر المعرفة الحقة والعلم الحقيقي، كما جعلت العقل والتجربة وحدهما – دون النقل والوجدان – الطرق المعتمدة والمأمونة لتحصيل هذه المعرفة.
المراجع
1- إرنست شوماخر: دليل الحائرين، ترجمة مركز دلائل للدراسات.
2- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
3- تقرير المرصد العربي للتربية للعام 2012.
4- عبد الحليم مهور باشة: نقد الأسس الفلسفية للنظريات التربوية الغربية.
5- عبد القادر طاش: أزمة الحضارة الغربية والبديل الإسلامي.
6- محمد عمارة: مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية.