أنا أم لعدد من الأبناء أكبرهم شاب لم يكمل العشرين من عُمره، وقد اجتهدت منذ رزقني الله – عزوجل- بأبنائي أن أربيهم على الإيمان والقرآن الكريم ومكارم الأخلاق، وأحسب أنني حتى الآن قد نجحت إلى حد كبير مع جميعهم إلا الابن الأكبر، فقد أخذ حظه من التربية كإخوته بل أكثر منهم، ومنذ نعومة أظفاره وهو ييّمم وجهه شطر المساجد ومراكز تحفيظ القرآن وأماكن النشاط الموجه المحترم، حتى إذا ما أحس نفسه كبيرًا بدأت تظهر عليه بعض التغيرات السلوكية التي نعيبها عليه، غير أننا كنا نُصبّر أنفسنا بأنها المراهقة وسرعان ما يهدأ بركانها ويعود الفتى إلى ما كان عليه.
غير أنّ الأمر لم يتوقف، بل ازداد سوءًا في معاملته لنا وفظاظته معنا، وكنّا نتعامل مع الموقف تعاملًا حكيمًا كمن يُروض نمرًا شرسًا ليهدئ من روعه وهو مع الترويض يزداد شراسة وافتراسًا؛ فقد تطور وضعه سوءًا حتى صار لا يترك بابًا من أبواب الضياع إلا ولجه ولوجا يشعرك أنه ينتقم من نفسه ومن شبابه ومن والديه، ورفاقه أسوأ.
أنا لم أكمل الأربعين من عمري لكن لو رآني راءٍ لظنّ أنني تخطيت الخمسين من فَرط همّي وتفكيري وانشغالي بولدي هذا الذي يهدر طوفانه الشرير ليلًا نهارًا ولا يكاد يهدأ ولا أظنه يهدأ حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة.
الإجابة:
أول سطرين من رسالتك أختي السائلة هُمَا مقياس نجاحك في تربية أبنائك، وليس ما آلت إليه من نتائج، يكفيك السعي والاجتهاد والبذل والمحاولة، أما النتائج والتوفيق والهداية فهذه من الله.
أحيانًا قد تأتي النتائج على خلاف السعي تربيةً وتنبيهًا من الله – عز وجل- إذا ارتأى منّا ركونًا إلى السعي ووسائله لا ركونًا إليه وحده، فيدفعنا هذا إلى حُسن اللجوء إليه والاتكال عليه ودوام طلب الهداية منه، وهذه المسألة قبل أن تكون أداءً باللسان فهي مسألة قلبية في المقام الأول، وحده الله يعلم إن كُنّا نعتمد عليه وحده في صلاح حال أبنائنا أم نعتمد على ما نبذله معهم من جهد.
هذا أول ما نُحب أن نُنبه إليه حتى لا تذهب نفسك على ولدك حسرات، بل يجب أن تهوني على نفسك وأن تذكّري نفسك بقول الله تعالى: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، فتطمئني وتحسني الظن بربك وتقري عينًا، وتحولي ما بداخلك من حزن وهمّ إلى طاقة من الدعاء والإلحاح على الله، وما كان سبحانه ليخيب رجائك ولو بعد حين. فبإذن الله تجدي ما غرست وإن طال أوان إثماره.
ثانيًا: نظرًا لربطك بين كبر الابن وتصرفاته الخاطئة، فربما قد وضعت يدك بهذا الربط على السبب وراء تصرفاته غير المقبولة، إذ ربما يرغب في أن يشعر أنه قد أصبح ناضجًا. وهذه واحدة من السمات المعروفة لمرحلة المراهقة، حيث يرغب الأبناء في الشعور بأنهم بالغون وناضجون في حين أن قدراتهم الفعلية لا تؤهلهم للتصرف وَفق أمنياتهم بالنضج، فلا هُم بقوا صغارًا ولا هم التحقوا بموكب الكبار، فيصعب تقبل وتفسير كثير من تصرفاتهم حينها، وإن كان الابن يريد أن يشعر أنه كبير مستقل، وقد دفعه ذلك للتمرد على ما تربّى عليه، فيجب أن تحل المشكلة بذات المفتاح.
يجب أن يعامَل الابن على أنه كبير، سواء في طريقة الكلام الموجه إليه، أو في استشارته في أمور الحياة وما يهم الأسرة – ولو كان الآباء على غير قناعة بآرائه ولم تكن ذات وجاهة كافية – أن يجد نفسه مسموعًا، ألا نكثر التوجيه والنقد والحكم عليه ونقدم بديلًا عن ذلك كلمات الثقة والاستحسان، والنقاش بدلًا من الأوامر، والمصاحبة بدلًا من الصدام.
وحتى يتمكن الآباء من معاملة أبنائهم في هذه المرحلة بالطريقة المناسبة يلزمهم الفهم والقراءة حول سمات هذه المرحلة وطريقة التعامل الأنسب معها، لأن التعامل مع الأبناء لا يأخذ شكلًا واحدًا حسب ما يحسنه الآباء، بل يجب أن يتغير ويتعلم الآباء ما يصلح للمرحلة التي يمر بها الأبناء.
ومن ضمن سمات هذه المرحلة شدة تأثير الأقران والأصدقاء، حتى إنه يشعر بالانتماء إليهم أكثر من شعوره بالانتماء لأسرته، ولو تطلب الأمر مخالفة ما تربى عليه لترسيخ أقدامه وسطهم، أما وقد وصفتِ رفقته بالسوء فهذا تفسير كاف لتغير سلوكيات ابنك، لذلك يجب أن تبقوا أنفسكم قريبين من أصدقائه، ولا تعلنوا رفضكم لهم، لأن هذا سيزيده تمسكًا بهم، بل ادعوهم إلى البيت، وتعرفوا إلى أسرهم، وليتقرب منهم الأب ويصاحبهم وينظم جولات معهم. هذا كفيل بتخفيف ضررهم على الابن وتخفيف شدة انجذابه إليهم. وفي المقابل إن استطعتم تقريب بعض الشباب الصالح منه، أقارب كانوا أو جيران أو روّاد للمسجد، لإيجاد بديل فلتفعلوا.
يجب للخروج من هذه الدائرة المفرغة أن يجري اتباع طرق جديدة وتجريب ما لم يُجرب مع الابن، لا اتباع نفس الوسائل التي لا تغير من الواقع بل تأتي بالنتائج نفسها دائمًا، فالصواب أنه (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، فكل طريقة مجربة غير فاعلة في كسبه مرة أخرى يجب التوقف عنها، وقد استشرنا مَن هُم قريبين من عُمر الابن الفاضل، حتى نفكر في الأمر من زاويته، وقد اقترحوا علينا أن يسافر الأبوين مع الابن في رحلة خاصّة أو أن يغيرا الأجواء المعتادة التي يعيشون فيها، وأن يحظى الابن بوقت خاص مع الأم والأب كل على حدة، لتحقيق التقارب والمشاركة واستدعاء الذكريات الطيبة والتعبير عن الحب والمشاعر دون تطرق لأي من المشكلات التي تعانون منها مع الابن.
ونؤكد هنا دور الأب الذي يفوق دور الأم في الأهمية بمراحل، وبخاصّة في هذه المرحلة السّنية، حيث يستطيع الأب بالتواجد والمصاحبة والمشاركة والحزم وتقديم القدوة الحسنة أن يغير في المعادلة كثيرًا.