تهتم الشريعة الإسلامية بتحقيق التكامل التربوي للإنسان، لذا فإنّ التربية الاقتصادية للأولاد ضرورة لا غنى عنها، لأنّها تجعلهم يتحمّلون المسؤولية، ويفهمون الحياة، ويفقهون الواقع، وينضجون معرفيًّا، ويكتسبون الخبرة في التعامل مع الناس.
بل إن من مقاصد الشريعة حفظ المال، ولا يتحقق هذا المقصد لأبنائنا إلا عن طريق تربيتهم اقتصاديًّا، وبالتالي فهو موضوع ليس هامشيًّا، بل من الأمور المسلَّمة الواضحة في الدين، ويجب على الآباء والمربين الاهتمام به في وقت مبكر من عمر الأبناء مثلما يحدث تمامًا في العبادات.
مفهوم التربية الاقتصادية
وتُعدّ التربية الاقتصادية بشكل عام هي كيفية تعليم الفرد إدارة إمكاناته وموارده الاقتصادية، والتعامل مع الجوانب الاقتصادية ﻓﻲحياته بكفاءة.
أما التربية الاقتصادية في الإسلام فهي تربية الإنسان المسلم على التعامل مع شؤون المال والاقتصاد ضمن تربيته على التعامل مع شؤون حياته كلها بشكل مُعين يتفق مع منهج الله المرسوم للتعامل معها دونما إفراط، شريطة أن يبتغي الإنسان في كل ما يقوله ويفعله وجه الله سبحانه.
وتعد هذه التربية جزءًا من منظومة التربية الإسلامية؛ فالتّربية الشاملة للمسلم تبدأ من تكوين شخصيته الإسلامية عقيدة وشريعة، ومشاعر وشرائع ووجدان وموضوعية، ويتخذ من الدين سندًا له في جميع معاملاته ومنها الاقتصادية.
فإذا استقر الإيمان في القلب فإنه يقود الإنسان إلى الالتزام بالحلال الطيب، وانقادت الجوارح لتسلك السلوك السليم الرشيد، لتحقيق ما اطمأن إليه القلب، فالتربية موجهة إلى القلب أولًا، ثمّ إلى الجوارح، ومن حصادها السلوك الاقتصادي الإسلامي.
التربية الاقتصادية في الإسلام
ولا تقل التربية الاقتصادية في الإسلام عن جوانب التربية الأخرى، فهي مُتفقة مع الإسلام كدين شامل ومنهج حياة، وهي غُصنٌ نضرٌ في جذع شجرة وارفة لا يُمكن الاستفادة من أحد فروعها دون بقية الفروع التي تشكل قبسات نور من مشكاة واحدة، أضاءها نور الأنوار الله جلّ وعلا.
وبهذه التربية نُحيي فقه الاقتصاد الإسلامي في نفوس المسلمين، وعقولهم، وسلوكهم، وبها يتحرر الناس من مخاطر كنز المال وحبسه عن مصارفه، ومن الخوف على المال من الإسراف والتبذير، ويتعلمون أن إمساك المال إنما يكون لجزء منه يسد الاحتياج، وأما الباقي فيتجه به صاحبه إلى استثماره لتحقيق الأمن والأمان.
وتمثلت أسس الاقتصاد الإسلامي والتعامل مع المال في الكثير من آيات القرآن الكريم، فقال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْـرَبُـواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
وأنكر القرآن على لسان نبي الله هود- عليه السلام- على قومه عَاد حين قال لهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) و(وَتَـتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُـمْ تَخْلُدُونَ) [الشعراء: 128- 129]، والإنكار هنا ليس على مجرد البناء الرفيع، بل على العبث به، وليس على اتخاذ المصانع- أي القصور والبروج المشيدة- بل على العيش فيها عيش من يُخَلَّد، لا عيش من يموت.
وفي الإنفاق، جاء قول الله تعالى: (وَالَّذِيـنَ إِذَا أَنفَـقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]، وهذا نهي عـن التقـتير، وغـل اليد عن النفقة، وفي الوقت نفسه نهى عن الإسّراف والتبذير. فالعدل في الاعتدال، والخير في التوسّـط، والفضيلة بين الإفراط والتفريط.
وقاعدة الاقتصاد في الإنفاق تتجلى في قول الحق- جل وعلا-: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29]، وهي آية تحض على الوسطية في الإنفاق.
وأشار القرآن الكريم في سورة يوسف- عليه السلام- في إطار الخطة التي وضعها للخروج من الأزمة، من خلال تقليل الاستهلاك في السنوات السبع الخصبة حتى يكون هناك مجال للادخار، قال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَـمَا حَصَـدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ) [يوسف: 47].
وشدد القرآن على تربية الأولاد على تحري الحلال، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا*} [النساء:29-30].
وطبّق النبي- صلى الله عليه وسلم- مبدأ الاقتصاد في جميع الأمور، وحثّ الصحابة الكريم عليه، ففي الطعام قال- عليه الصلاة والسلام-: “إذا أكَل أحَدُكم فَلْيذكُرِ اسمَ اللهِ تعالى، فإن نسِي أن يذكُرَ اسمَ اللهِ تعالى في أوَّلِهِ، فليقُلْ: بسمِ اللهِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ” (الترمذي وأحمد وابن ماجه).
وربى النبي أصحابه على تحري الحلال في أي عمل يقومون به، قال- صلى الله عليه وسلم-: “أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ وصدقُ حديثٍ وحسنُ خُلقٍ وعِفَّةٌ في طُعمةٍ” (أخرجه أحمد).
ونهى الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الإسراف في استخدام المياه حتى ولو كان المسلم يتوضأ على نهر جار، كما روى عن ابن ماجة وكذلك أمره إيانا أن نسْلُتَ القَصْعَةَ- أي: نتتبع ما فيها من الطعام بحيث لا يبقى فيها فضلة تُرمى.
وأمر النبي بالاعتدال في الإنفاق، حيث يقول- صلى الله عليه وسلم-: “إن الهَدْيَ الصالحَ، والسَمْتَ الصالحَ، والاقتصادَ- أي: التَّوَسُّطَ في الأمورِ، والدخولَ فيها برِفقٍ؛ حتى يمكِن الدَّوَامُ عليها- جزءٌ مِن خمسةِ وعشرين جزءًا مِن النُّبُوَّةِ” (صحيح أبي داود).
وحثّ الرسول على الصدق في التجارة، وبين أن البركة في هذا الصدق، فقال: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما” (مسلم)، ونهى عن الغش، فقال: “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا” (مسلم)، كما نهى عن الحلف لترويج السلعة، فقال: “ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ: المَنَّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الفاجِرِ، والْمُسْبِلُ إزارَهُ” (مسلم).
تطبيقات عملية لتربية الأولاد اقتصاديا
بعد استقراء آيات من القرآن الكريم، وبعض الأحاديث النبوية، يُمكن استنباط تطبيقات عملية في مجال التربية الاقتصادية للأبناء، ومنها:
- تخصيص مصروف معين للأطفال في عمر مبكر يساهم في اكتساب الطفل مهارة التعامل مع الآخرين خارج إطار العائلة، وتحمّل مسؤولية إدارة نقوده، حيث يشتري ما يريده وحده ويتعامل مع البائع ويحتسب القيمة الشرائية للشيء الذي يرغب في شرائه ويفكر في ما إذا كان المبلغ مناسبًا أم لا.
- تعليم الأطفال أن يدخروا من مصروفهم اليومي ليتعلموا أهمية المال في تلبية احتياجاتهم وقيمته والأساليب الصحيحة لطريقة صرفه.
- وتعليم الأطفال التوسط في الإنفاق وعمل ميزانية، والتخطيط لتحديد الأولويات ليتعلموا التوفير والاستثمار ورسم الخطط المستقبلية حتى يستطيعوا تحمل المسؤوليات المالية.
- إطلاع الأطفال على ما يُحدد الأهل من ميزانية للنزهات ولشراء الملابس، فإن الطفل المطلع على ميزانية الأسرة سيكون متفهمًا الظروف وينشأ نشأة صحيحة.
- تعليم الأطفال بأنّ الرّزاق هو الله تعالى، والأخذ بأسباب الرزق والسعي له ضرورة، وكذلك الموازنة بين الاهتمام بالأموال والاهتمام بالعبادات.
- قراءة قصص عن تحريم الربا، والرشوة والفساد المالي، والنهي عن التلاعب بالميزان، واستثمار الأموال وعدم كنزها، والتوسط في النفقة والبعد عن التبذير، والإنفاق في سبيل الله، والوفاء بالعقود المالية.
- كتابة وتعليق خطّة الإنفاق الشهرية، واتّباع خطوات التسوّق السليمة، من كتابة لائحة بالمشتريات ومراجعة الحساب واستغلال فرص التخفيضات.
- تدريب الابن مبكرا في الإجازات على الكسب الحلال، وإعداد دفتر تدوّن فيه بنود الصرف والادخار وحركة الشراء اليومية.
- تشجيع الطفل على حفظ بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا َلا تُسْرِفُوا} ([الأعراف: 31]. والأحاديث والروايات التي يظهر فيها النبيّ وأصحابه وهم يربون النشء على القيم والآداب الاقتصاديّة.
- الاستفادة من الإجازة الصيفية في إنشاء مشروع صغير للأطفال يدر بعض الربح، وينمي لديهم جانب المسؤولية والاعتماد على النفس والكسب بالحلال.
إنّ التربية الاقتصادية جزء لا يتجزأ من التربية الإسلامية التي تتميز عن غيرها باستمداد مبادئها وأهدافها وأساليبها من المصادر الإسلامية الثابتة، التي ليست مجموعة فرضيات تُثبت عن طريق التجربة، وتكون قابلة للرفض أو القبول، كما أنها ليست مجموعة مبادئ وضعها البشر، بل هي منهج رباني من الله سبحانه وتعالى.
ولا شكّ أنّ هذه التربية هي القادرة على إخراج الإنسان من المشكلات التي تواجهه اليوم، التي جعلته يعيش في دوامة من الغلاء والفقر والعوز، فهي تُنمي عند المسلم منذ الصغر الرقابة الذاتية، والخشية من الله تعالى والخوف من المساءلة في الآخرة، وهذا بدوره يجعله يلتزم الحلال ويبتعد عن الحرام.
المصادر والمراجع:
- الموسوعة القرآنية: التربية الاقتصادية في القرآن الكريم وتطبيقاتها في الأسرة والمدرسة.
- كيندة حامد التركاوي: التربية الاقتصادية في الإسلام وأهميتها للنشء للجديد، ص 22.
- مركز جيل البحث العلمي: تربية الأبناء على مفاهيم الاقتصاد الإسلامي.
- علي عبد الحليم محمود: التربية الاقتصادية الإسلامية، ص277.
- جمال بلبكاي: تربية الأبناء على مفاهيم الاقتصاد الإسلامي، ص6.