أثبتت كثيرٌ من الدّراسات والأبحاث أنّ التربية على ثقافة الاعتذار تُوجد مجتمعًا مترابطًا خاليًا من الحسد والحقد، سيّما إذا لم تقتصر هذه التربية والثقافة رفيعة المقام على البشر فحسب، حيث يجب على ولي الأمر والمربي أن ينشئ الطفل ويربيه على فضيلة الاعتذار إلى الله- سبحانه وتعالى- أولًا، بالاستغفار والندم والتوبة وإصلاح النفس من الداخل، ثم الاعتذار إلى الآخرين عند الخطأ.
وفي دراسة بعنوان: “تنشئة الطفل على فضيلة الاعتذار من منظور تربوي إسلامي”، للدكتورة طرفة إبراهيم الحلوة، أستاذ أصول التربية الإسلامية المساعد، جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، السعودية، ركّزت على الأساليب التربوية التي يجري من خلالها تنشئة الطفل على هذه الفضيلة وهي القدوة، والقصة، والترغيب والترهيب، والموعظة الحسنة، والحوار، والتربية من خلال الأحداث الجارية.
ثقافة الاعتذار في الشريعة الإسلامية
إنّ من مميزات الشريعة الإسلامية على الشرائع الأخرى السابقة، أنها اهتمت بحياة الفرد في كل جوانبها، ولم تقتصر على إشباع الجانب الروحي وعلاقة الإنسان بربه فقط، بل سنّت مجموعة من النظم والتشريعات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية، التي تهدف إلى بناء مجتمع إنساني راقٍ ومتحضر من خلال علاقة كل من الفرد والمجتمع بالآخر، وعلاقة المجتمع بغيره من المجتمعات الأخرى.
وحين خلق الله- سبحانه وتعالى- الإنسان وهو أعلم به وبطبيعته وما اكتنفها من ضعف، أنزل الشريعة التي تنظم حياة الإنسان مع ربه ومع الناس جميعًِا. وحيث إن الإنسان معرض للخطأ والزلل جاءت الشريعة تلتمس العذر لأخطاء الإنسان في علاقاته كافة، وشرعت ما يصلح من خطئه، ويستكمل نقصه، ويجبر ضعفه، فيصحح تلك العلاقة بالاعتذار المتمثل في الاستغفار، والتوبة، وهو ما يفيد المربين في التربية على ثقافة الاعتذار والندم.
لقد شرع الإسلام عدة تشريعات هي في حقيقتها اعتذارات، ليغرس بذلك في نفس المسلم خلق وثقافة الاعتذار؛ فمثلًا في باب العبادات إذا صلى المسلم وَسَهَا في صلاته لانشغاله بأمر من أمور الدنيا، وفقد خشوعه وتركيزه في الصلاة بين يدي ربه فنسي ركوعًا أو سجودًا أو ما يكون من شأن الإنسان من نسيانٍ في الصلاة، فإن الإسلام قد سَنَّ علاجًا لهذا الخلل والخطأ، فَشَرَعَ له (سجود السهو)، وهو اعتذار لله- عز وجل- من المسلم الذي بدر منه التقصير بزيادة، أو نقص، أو تقديم، أو تأخير.
ولم تقف الشريعة الإسلامية على تربية المسلم على الاعتذار عند الخطأ مع الله سبحانه وتعالى، وإنما سعت إلى تهذيب علاقته مع الآخرين بتربيته على ثقافة الاعتذار، لكي يتحقق هدف وحدة المجتمع الخالي من الفساد والأحقاد والأضغان، وتقوية الصلات والروابط الاجتماعية التي تسعى إليها الشريعة الإسلامية، وذلك بالاقتداء بالأنبياء عليهم السلام عمومًا وبالرسول- صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص، الذي كانت حياته ترجمة صادقة وسلوكًا عمليًّا مطبقًا لكل أمر إلهي: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ومع ذلك نزلت فيه- صلى الله عليه وسلم- سورة عبس تُتلى على الأزمان ومر العصور، تتناول الآيات العشر الأولى منها توجيه النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الاعتذار من عبد الله بن أم مكتوم، وهو رجل كفيف لا يرى تعابير وجه النبي- صلى الله عليه وسلم- حين عبس في وجهه، وبذلك لم يشعر بموقف النبي- صلى الله عليه وسلم- ونزل العتاب والتوجيه للنبي للاعتذار إليه حتى يكون في ذلك توجيه للمسلين بأن الاعتذار لا يُسقط من هيبة الإنسان مهما عَلَتْ مكانته، بل يعزز قيمته لدى الآخرين لما فيه من ترضية للنفوس وتطييب للقلوب.
كما أن فيه تربية لكبار القوم، فلا يتعالون عن الاعتذار لِكِبَرِ المقام، وعُلُوِّ المكانة، لأن هدف الشريعة الإسلامية من الاعتذار تربية المسلم على عدم الكبر والتطاول، وعلى تليين القلوب من الغلظة، والقضاء على الكبر، ومحو الأخطاء، وصفاء القلب.
التربية على ثقافة الاعتذار.. آداب وفوائد
وتضم التربية على الاعتذار عددًا من الآداب والفوائد المهمة، يجب على أولياء الأمور والمربين الانتباه إليها، ومن الآداب:
- أن يجعل الاعتذار للآخرين خالصًا لله- سبحانه وتعالى-، وليس تقرّبًا إلى الشخص الذي يريد أن يعتذر إليه أو خوفًا منه.
- الاعتراف بالخطأ وإبداء الندم وطلب العفو؛ وهذا نهج الأنبياء- عليهم السلام- كما بينه القرآن الكريم.
- أن يكون المخطئ صادقًا في اعتذاره.
- أن يركز المخطئ على موضوع الاعتذار والموقف الذي وقع فيه الخطأ، وخصوصًا إذا كان قد مضى مدة من الزمن على موضوع الاعتذار والموقف الذي حدث فيه الخطأ.
- أن يختار المخطئ الأسلوب المناسب لشخصية المعتذر إليه؛ كإرسال هدية له من أجل التلطف والتودد وتليين عريكة الرجل الذي يود الاعتذار إليه، أو مدحه، والثناء عليه أمام الآخرين وإن كان غائبًا.
- تقديم الاعتذار إلى الشخص الذي أخطأ المخطئ في حقه مباشرة، دون واسطة ما أمكن ذلك.
- أن يبادر المخطئ إلى الاعتذار ولا يؤجله حتى لا يكون للشيطان فرصة في سوء الظن، وزرع البغض والحقد بين المتخاصمين.
- أن يختار المخطئ الوقت المناسب لاعتذاره، فيتحين الوقت الذي تكون فيه نفسية الشخص الذي يريد الاعتذار إليه هادئة وبعيدة عن الانفعالات والضغوط؛ حتى يتقبل الاعتذار ويتفهم العذر.
أما فوائد الاعتذار، فيمكن أن نلخص أبرزها في النقاط التالية:
- حصول المخطئ بعد اعتذاره على رضا الله- سبحانه وتعالى-، والبعد عن العقوبة بسبب الإصرار على الخطأ.
- يُذهب الاعتذار عن المعتذر القلق والتوتر، ويجلب إليه الراحة النفسية.
- ويُربي الاعتذار إلى الآخرين المخطئ تربية معنوية؛ لأنه يصفي قلبه ويدربه على تأمل نفسه، ومراقبة سلوكه.
- يقضي انتشار ثقافة الاعتذار بين أفراد المجتمع على القطيعة، ويزيد من أواصر المحبة والإخاء والتكاتف بينهم، لأن الاعتذار يبعد عن النفس الرغبة في الانتقام والتشفي.
- إقرار المخطئ بخطئه واعتذاره منه اعتراف ببشريته التي من صفاتها النقص والخطأ، أما بالنسبة للذي أخطئ في حقه، فإن الاعتذار إليه يعيد له الاحترام، وينفي عن نفسه الشعور بالغضب والانتقام.
- يسهم خلق الاعتذار في تطهير المجتمع من سوء الظن، وتقاذف التهم التي إن استقرت في القلوب فلن يفيد معها اعتذار، ولأن هدف التربية الإسلامية ينطلق من تربية الفرد على تكوين مجتمع مترابط خالٍ من الأمراض الأخلاقية والنفسية، والمسلم الحق والإنسان السوي يرجع إلى الحق إذا تبين له سبيله، واتضح له طريقه.
موانع الاعتذار
ويجب أن يعلم من يقوم بتربية الطفل على الاعتذار أنّ هذه الفضيلة أدب وخُلُق اجتماعي راقٍ، وهو من أقوى الصفات التي تدل على تواضع الشخص وتسامحه، فضلًا عن أنه أسلوب يُحسن صورة المعتذر عند الآخرين، ويبعد عنه سوء الظن حين يصدر منه الخطأ، كما ينبغي للذي أُخْطِئَ في حقه قبول العذر والعفو، وتلمس العذر لمن أخطأ بحقه، وذلك من خلال إزالة الأسباب التي تمنع كلا الطرفين من الوصول إلى الصلح، ومن أهمها:
1- البيئة: بما تحمله من خلفيات ورواسب ثقافية واجتماعية ونفسية آثار جمة على اتجاهات وأنماط سلوك الفرد؛ وذلك من خلال آثار العادات والتقاليد والتطبيع الاجتماعي وطرق تنشئة الأطفال.
ولذلك يجب أن تتولى المؤسسات التربوية إشاعة ثقافة الاعتذار لكي يقضوا على جميع الموانع والحواجز التي تقف حائلًا بين المخطئ وتقديم الاعتذار؛ كالكبر والجهل بأهمية الاعتذار.
كما يجب على المؤسسات التربوية أن تربي لدى أفراد المجتمع، الحس والدافع الإيماني، بذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين فضل الاعتذار، وشرح القصص التي تناولت اعتذارات الأنبياء والرسل- عليهم السلام- لله سبحانه وتعالى أو لأقوامهم. وتوجيه النبي- صلى الله عليه وسلم- كبار الصحابة في مواقف متعددة إلى الاعتذار، والتذكير باليوم الآخر وما فيه من فضل وثواب لمن بادر بالصلح ولمن قبل العفو، وأن الله سبحانه وتعالى مطلع على نوايا عباده وأعمالهم؛ ولذلك يجب ألا يتمادوا في الخطأ.
كما أن نشر ثقافة الاعتذار يجب أن تشمل توضيح مفهوم العفو ومكانته في الإسلام وفضله لصاحب الحق حتى لا يجد المعتذر الصد منه، فلا يبادر بالاعتذار إليه لسابق علمه بما سيواجه به من رفض اعتذاره وعدم قبوله؛ ذلك أن تلقي الأعذار بطيب نفس وعفو وصفح، يحض الناس على الاعتذار.
وسوء المعاملة للمعتذر وتشديد اللائمة عليه يجعل النفوس تصر على الخطأ، وتأبى الاعتراف بالزلل، وترفض تقديم المعاذير، فإن بادر المسيء بالاعتذار وجب على المعتذر إليه قبول العذر والعفو عما مضى لئلا ينقطع الوصال.
2- الجهل: وهو من أهم موانع انتشار ثقافة الاعتذار لأنّ بعض الناس يرى أن في الاعتذار منقصة وتقليل من شأن الشخص المعتذر. وقد يفهم بعضهم أن الاعتذار يقتصر على مجرد اعتذار باللسان وكلمات تلقى بلا مبالاة ودون تجسيد؛ فعلى لهذا المفهوم، وما يترتب عليه من إعادة الحقوق إلى أهلها، أو تعبير عن ود وتواصل وتصفية للقلوب من الأحقاد، أو ما يترتب عليه من هجران وبيان أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”.
وحدّدت هذه المدة لأنّ الإنسان مجبول على الغضب، فعُفِيَ له عن هجر أخيه ثلاثة أيام ليذهب ذلك العارض تخفيفًا على الإنسان، ودفعًا للإضرار به، ففي اليوم الأول يسكن غضبه، وفي اليوم الثاني يراجع نفسه، وفي اليوم الثالث يعتذر، وما زاد عن ذلك كان قطعًا لحقوق الأخوة.
3- الكِبْر: إن الإنسان الذي يتخلق بالكبر ينظر إلى الاعتذار على أنه ضَعْفٌ في الشخصية، وأنه سلوك لا ينتج عنه سوى إهدار الكرامة، والهزيمة، وإنقاص للمكانة والقدر، وبسبب النظرة السلبية السائدة من قبل بعض أفراد المجتمع نحو ثقافة الاعتذار فإنهم يرفضونها؛ لاعتقادهم أن الطرف الآخر يتصيد ضعفه؛ ولذلك فالأب- غالبًا- لا يعتذر لابنه حين يخطئ حتى لا تهتز مكانته داخل الأسرة، والمعلم لا يعتذر للطالب حتى لا تنتقص مكانته أمام الطلاب، والمدير لا يعتذر إلى الموظف لأن مركزه لا يسمح له بذلك.
ولما يترتب على عدم الاعتذار من أضرار لا تقتصر على المتخاصمين فحسب، وإنما تشمل المجتمع كله- وجب على المخطئ الاعتذار لأنه يقرب بين الأفراد والجماعات والأمم، ويُقَوِّي المحبة ويكسب المجتمع مناعة ضد التباغض والعداوة.
أساليب تنشئة الطفل على ثقافة الاعتذار
إن المتأمل في أساليب التربية على الاعتذار وفق منظور الشريعة الإسلامية يجدها تتسم بالشمول والتكامل؛ فبعض الأساليب تلامس الوجدان كأسلوب الترغيب والترهيب، على حين أن أسلوب القصة يلامس الجانب الانفعالي، وأسلوب الحوار يناقش الجانب العقلي، وهذا يتطلب من المربي أن يلم بجميع هذه الأساليب، ويكون على دراية بسمات الطفولة، وشخصية الطفل المسؤول عنه، ومن ثم يربي الطفل عن طريق هذه الأساليب بما يتناسب مع شخصيته وبما يتطلبه الموقف الذي يكون فيه، ومن هذه الأساليب:
1- القدوة: فهو أسلوب يتطلب من المربي أن يتمثل الاستقامة في سلوكه، وأن يترجم قوله إلى فعل حتى يكون ذلك أبلغ أثرًا وأعمق انطباعًا في النفس، وهذا موضع اتفاق بين علماء التربية.
فالطفل مثلًا في سنوات حياته الأولى يكون في مرحلة اكتشاف لمشاعره ومشاعر الآخرين، فيشعر بالألم ويبكي حين يؤذي أحدًا. وينبغي للمربي أن يتيح للشفعاء فرصة الشفاعة والتوسط للعفو عن الطفل، ويسمح له بالتوبة ويقبل منه.
وقد بيّن القرآن الكريم في سورة يوسف كيف جرى التعامل داخل الأسرة بخلق الاعتذار والتسامح، وكيف تمت تربية الأبناء عليه. وذلك كما حدث حين قَبِلَ يعقوب عليه السلام اعتذار أبنائه برغم عظم ما ارتكبوه من خطأ، فحين اعترفوا بذنبهم وخطئهم بحق يوسف وأخيه وطلبوا من أبيهم أن يسأل ربهم لهم المغفرة والعفو ويستر على ذنوبهم، عفا عنهم ونسب ذلك إلى نزغ الشيطان دون الخوض في الأسباب، وذلك للحفاظ على ترابط الأسرة وصيانتها من التفكك.
2- القصة: وهي تلعب دورًا كبيرًا في شد انتباه الطفل، ويقظته الفكرية والعقلية، وتحتل المركز الأول من بين الأساليب الفكرية المؤثرة في عقل الطفل؛ لما تحظى به من متعة ولذة، والمتأمل في القرآن الكريم وسيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وسير الأنبياء، وسير الصحابة رضوان الله عليهم، يجد وفرة من القصص التي تبين فضل الاعتذار، وحرص النبي- صلى الله عليه وسلم- والصحابة على تطبيق تلك الفضيلة، وكذلك نجد اعتذار الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى، كاعتذار موسى عليه السلام إلى ربه حين قتل الرجل، أو اعتذار الأنبياء إلى البشر كاعتذار النبي- صلى الله عليه وسلم- من ابن أم مكتوم.
ويجب على المربي عند ذكر هذه القصص للأطفال أن يستفيد من المبادئ والقيم التربوية التي تحتويها هذه القصص في غرس هذه القيمة، ومنها على سبيل المثال: أن يقبل الاعتذار الأول من الطفل دون قيود، وإن كرر نفس الخطأ يشترك مع قبول عذره عقوبة، وذلك كما أخذ موسى عليه السلام على نفسه عهدًا بالفراق إن كرر السؤال.
لا بُد- أيضًا- أن يحرص المربي على تجسيد القصة أمام الأطفال قدر استطاعته؛ لكي يصل بالأطفال إلى التأثر بالأحداث والانفعال بالمواقف وتعليم الأطفال الاتزان في انفعالاتهم التي تنعكس على أفعالهم وأقوالهم والمواقف التي تصدر منهم بصورة عامة، ولا مانع من مساعدة المربي للطفل في إنشاء قصة يكون فيها بطلًا ويكون هو من يقوم بوضع فصولها ومراحلها حتى النهاية لتكون الفائدة أرجى، والخبرة آكد.
ومثل هذه القصص يكون لها أثرها العظيم في غرس أفضل القيم والمبادئ في نفوس النشء، لأن الطفل يجد نفسه بطلًا في القصة التي تدور حولها الأحداث، ويتحرر من واقعه وحدوده التي يعيش فيها إلى عالم واسع يعيش فيه، وفي ذلك تعليم وتربية، بجانب المتعة والراحة النفسية.
3- أسلوب الحوار: وهو يجري بين طرفين يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره، قاصدًا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.
ويُعد أسلوب الحوار من الأساليب المهمة، وخصوصًا لأنه يعمل على مخاطبة العقل والوجدان معًا. فالتحاور يدفع الطفل إلى التفكير العميق، والملاحظة والاستنتاج. وهو يحترم الذات الإنسانية للأبناء، فلا يفرض عليهم أفكار الآخرين وتجاربهم، بل يترك تلك الخبرات تنمو معهم من طريق اكتسابها ذاتيًا عبر المناقشة.
وذلك كما ورد في قصة يعقوب- عليه السلام- مع ولده يوسف في أمر الرؤيا حيث تتبين لنا قيمة الحوار بوصفه أسلوبًا تربويًّا يمارسه الوالدان مع أبنائهما، وذلك في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} (يوسف: آية 3)، فيجب على المربي أن يتدبر ويتأمل هذه القصة وما تحتويه من أهداف تربوية، فيتجرد من التعالي أثناء الحوار، ويحترم شخصية الطفل، ويخاطبه بأسلوب رقيق، وفيه ود، وحنان مستخدمًا الألقاب المحببة إلى نفسه، ويترك للطفل المساحة الكبرى في الحوار حتى يستطيع المربي أن يستشف شخصية الطفل من خلاله.
ومن المجدي استخدام أسلوب الحوار الودي، والهادئ لتنشئة الطفل على فضيلة الاعتذار من خلال التوضيح للطفل أن الإنسان مجبول على الخطأ، وقد يكون الخطأ بحق الله سبحانه وتعالى وعلاجه يكون بالاستغفار، والندم، وضرب الأمثلة على ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم، وتدريب الطفل على محاسبة نفسه من خلال استرجاع المواقف التي حدث فيها اختلاف بينه وبين الآخرين سواء على مستوى الأقران أو المدرسين أو الخدم.. الخ، وبيان خطئه إذا كان مخطئًا وتشجيعه على الندم والاعتذار والتفكير معه بالوقت والأسلوب المناسب للاعتذار، وتعويد الطفل على الاعتذار للخدم ومن هم أصغر منه سنًا إذا أخطأ بحقهم لما فيه من تطييب لخاطر من أخطأ بحقه، ومواساة له، واستجداء لرضاه ورفعًا لمعنوياته، وبالتالي تزول الضغائن، والأحقاد، وتكون العلاقات مبنية على الود والاحترام.
4- الترغيب والترهيب: أسلوبان تربويان متضادان، يجب على المربي أن يحسن استخدامهما في تربية الطفل. فيرى ابن خلدون أنه ينبغي لقَيِّم- أي المربي- الصبي أن يجنبه مقابح الأفعال، وينكب عنه معايب العادات بالترهيب والترغيب، بالحمد مرة وبالتوبيخ أخرى.
ولا شك أن لأسلوب الترغيب في التربية مكانة لما يتركه في نفوس الأطفال من عذوبة ونشوة تبعدهم عن السآمة والملل اللذين تولدهما الأساليب النمطية والتقليدية في التربية والتعليم.
وبذلك يجب على المربي أن يبين للطفل فضل الاعتذار وفوائده على الفرد والمجتمع، وأن المسلم الحق هو من يتراجع عن خطئه بالاعتراف به والاستغفار وطلب المغفرة والعفو من الله سبحانه وتعالى، ويرغبه بذلك بما أعده الله سبحانه وتعالى من أجر للعافين عن الناس كقوله تعالى: {وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ولا تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [البقرة، 219] وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ واصْفَحْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [المائدة، 13].
ويجب تعليم الصبي أن الله- سبحانه وتعالى- غفور رحيم مهما كان حجم الذنب وعظمه، وذلك كما في قصة موسى- عليه السلام- عندما قتل القبطي وندم على ذلك، فطلب المغفرة من الله- سبحانه وتعالى- واستجاب له: {قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16] وفي ذلك عبرة، ولله المثل الأعلى في قبول الاعتذار والعفو عن المخطئين، والصفح عنهم مهما كان خطؤهم، كما أن فيه درسًا للمخطئ بأن يبادر بالاعتذار عن خطئه وإن لم يكن قاصدًا ذلك الخطأ ومتعمدًا له.
وعلى المربي أن يبين للطفل من خلال الترهيب ما يترتب على عدم العفو والمكابرة من آثار، فقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”؛ ومن ثم فالكبر يصبح حجابًا دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر وعزة النفس يغلقان تلك الأبواب كلها؛ لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من العزة، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين وفيه العزة، ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العزة.. ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العزة.
5- التربية بالحدث: عرفّت (اللهيبي) التربية بالحدث بأنها: “وقوع حدث مشاهد أو مسموع تثار حوله أمور، ومجريات فتصاحبه عبر ومواعظ، إما قبله أو بعده، فتؤثر في النفوس تأثيرًا بالغًا وتبقى عالقة في الأذهان لمدة طويلة، وذلك لربط الموعظة بالحدث الحاصل”.
وهذا الأسلوب التربوي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأسلوب الملاحظة، وذلك لأن المربي في هذا الأسلوب لا يمكن أن يفتعل الأحداث، فهي تجري بقدر الله في صغير الأمور وكبيرها على السواء.. ولكن المنهج يقتضي منه أن ينتهز الفرصة المناسبة ليلقي دروسه التربوية في الأحداث التي تقع- بقدر الله- والتي يرى أنها صالحة لتوجيه تربوي معين. سواء كان الانفعال بالحدث قائمًا في نفس الطفل بالفعل، أو كان على المربي أن يثير ذلك الانفعال بتعليقاته عليه، حتى إذا علم أن التوهج الشعوري قد حدث داخل نفسه أعطاه التوجيه المطلوب. وغالبًا ما يجيء الأمر بعد مخالفة تقع من الطفل لها أثر غير عادي في نفسه، فعندئذ يكون التوجيه أفضل. أما أحداث اليوم العادية فليست هي المقصودة بالتربية بالأحداث، ولا شك أن ذلك يتطلب مهارة وقوة ملاحظة من المربي.
والمتأمل في القرآن الكريم يجد في سورة عبس توجيهًا مباشرًا للنبي- صلى الله عليه وسلم- من خلال موقف معين عندما عبس في وجه ابن مكتوم، كما نجد النبي- صلى الله عليه وسلم- استخدم الأسلوب نفسه وهو التربية بالحدث، وذلك كما ذكرت الباحثة في قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عندما ذكرا الرجل الذي يخدمهما بأنه رجل نؤوم، فوجههما النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى كيفية الاعتذار المباشر عندما طلبا من النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لهما، فوجههما النبي إلى أن يطلبا المغفرة من الرجل مباشرة.
وبذلك يجب على المربي أن يمتثل منهج التربية الإسلامية في تربية الطفل على تلك الفضيلة من خلال هذه القصص، حيث يتبين لنا كيف ربى الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم من خلال حدث معين في سورة عبس على أهمية الاعتذار، وأن الاعتراف بالخطأ يعبر عن شجاعة المعتذر وثقته بنفسه، وكيف اتبع النبي- صلى الله عليه وسلم- الأسلوب نفسه في تربية الصحابة- أبي بكر وعمر- حيث جعل الاعتراف بالخطأ هو الخطوة الأولى في المعالجة والإصلاح، ثم تلاها تحمل المسؤولية والاعتذار ممن وقع الخطأ بحقه.
وبذلك يتضح أن التربية عن طريق الحدث من الأساليب النبوية التي لها تأثير قوي في النفوس، فإن أثر المعاني حين تربط بصورة مشاهدة محسوسة تكون أقوى من عرضها في صورة مجردة جافة.
6- التربية باللعب: تُعَرَّفُ التربية عن طريق اللعب بأنها: “ذلك النشاط الحر الذي يُمَارَس لذاته، وهو ميل من أقوى الميول وأكثرها قيمة في التربية الاجتماعية والرياضية والخلقية، فهو سلوك طبيعي وتلقائي صادر عن رغبة الشخص أو الجماعة. ففي الصغر يميل الطفل إلى اللعب الانفرادي وكلما تقدمت به السن زاد ميله إلى اللعب الجماعي”.
ويجمع الطفل في اللعب بين نمو عضلات جسده وتقوية بنيته وبين انسجامه مع محيطه ذهنيًا واجتماعيًا، وهو الوسيلة التربوية الوحيدة التي تجمع بين الحركة والتفكير، والأسلوب الأنجح للتعامل مع الأطفال في هذا السن.
وهذا على العكس مما هو متعارف عليه لدى العامة، فبعضهم يفهم أنه نشاط هدفه اللهو واستهلاك الوقت والجهد دون أن تكون هناك قوى أو دوافع خارجية تحركه وتوجهه.
والمتتبع لسيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وآراء المفكرين التربويين يدرك مدى اهتمامهم باللعب بصفته وسيلة تربوية ناجعة للأطفال وذات أثر بالغ، فاعتبروه وسيطًا فعالًا لتشكيل شخصية الفرد في سنوات طفولته. وتحدد أهمية اللعب وتحقيقه لدوره التربوي بوعي الكبار بقيمته التربوية وبإتاحتهم الفرصة أمام الطفل لتحقيق الذات في أنشطة اللعب ومواقفه المتنوعة.
وينبغي للمربي أن يشارك الطفل في لعبه، وذلك بأخذ أحد الأدوار واللعب التمثيلي؛ لكي يكتسب الطفل مجموعة من المهارات كمهارة تبادل الحقوق والواجبات والأخذ والعطاء، ومن الممكن أن يختلق المربي المواقف والأدوار التي تتضمن القيم والآداب والسلوكيات التي يريد أن يغرسها في الطفل؛ كأن يختلق المواقف التي تتطلب منه أن يعتذر من الطفل ويعتذر منه فعلًا، فبذلك يغرس في نفس الطفل أهمية الاعتذار وآثاره الإيجابية على الطرف المقابل، وألا يخدش الكبرياء ولا يذل النفس بطريقة عملية. ويعكس الموقف أيضًا في أحداث مصطنعة أخرى فيطلب من الطفل أن يعتذر. وبذلك يستطيع أن يراقب انفعالات الطفل وتوجهاته ويعمل على تعديلها دون أن يُشعِره بذلك.
7- التربية بالممارسة والتكرار: وتتميز التربية الإسلامية بأنها تربية عملية، تتعدى التنظير إلى التطبيق الفعلي، فتجعل القيم من خلال تكرار الممارسة واقعًا حيًّا يطبقه الفرد، وبذلك تجردها من الإطار النظري البحت ومخاطبة الفكر وحده، أو الوقوف عند التحليل والبراهين التي تثبت سمو الفكرة وصحتها. بل تطرح القيم والفضائل وتحولها إلى واقع ملموس.
لذلك نجد القرآن الكريم ربط الإيمان في كثير من الآيات القرآنية التي تدعو إليه بالممارسة والتطبيق قال تعالى: {ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: آية 124] وقال تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر، 3] والمتأمل في هذه الآيات يجد أن القرآن الكريم يهدف إلى إكساب المؤمن هذه الأفعال صفة الديمومة والاستمرار حتى تصبح هذه الأفعال جزءًا من ثقافته وحياته فلا تَثْقُل عليه.
وهذا يترتب على المربي تعويد الطفل على التزام القواعد والمبادئ الإسلامية حتى ينساق وراء أدائها بشكل آلي نتيجة استمراره عليها ومعاودتهم لها مرة بعد أخرى، مع الحرص على عدم تجريدها من حقيقة كونها عبادة في الهدف والمغزى.
ويجب على المربي ألا يقتصر على هذا الأسلوب في تعليم الطفل الشعائر، وإنما يشمل تعليمه الفضائل والآداب، فمثلًا يكون حريصًا على تعويده الاعتذار كلما أخطأ في حق الآخرين، كما يجب على المربي ألا يتهاون بذلك مبررًا خطأ الطفل بصغر سنه. وإنما يبدأ بالتدريج فيبدأ بتعليمه الكلمات الصغيرة مثل كلمة (آسف) حتى وإن كان الطفل لا يدرك معناها، ثم بعد ذلك يتدرج إلى أساليب أخرى تتناسب مع سن الطفل، ويربطه برضى الله سبحانه وتعالى؛ لأن تعليمه الاعتذار منذ الصغر يعوده على التواضع، واحترام الآخرين، ومراعاة مشاعرهم، فيبادر إلى الاعتذار من تلقاء نفسه دون تردد.
المصادر والمراجع:
- ثقافة الاعتذار والتسامح.. خلق إسلامي رفيع https://bit.ly/3fOYAWo.
- الاعتذار https://bit.ly/3rIZSaY.
- الاعتذار.. الخلق الذي نفتقده https://bit.ly/3fOSZj2.
- قوة الاعتذار https://bit.ly/33z2XTe.