الشورى في الإسلام أصل من الدِّين، وقاعدة ثابتة في الشريعة، وتطبيقها طاعة لله ورسوله، وهي واجبة على كل مسلم فيما يعرض عليه، وأكثر وجوبًا على الحاكم وليست إحسانًا منه، أو منحة أو تكرمة، وليس له فيها منّة، وهي حق شرعي للأمة لتُستشار في أمورها.
وتعد الشورى أصلًا من أصول النظام السياسي الإسلامي، الذي أكد عليه القرآن في أكثر من آية، وطبّقه النبي- صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه الكرام في العديد من المواقف التي لم ينزل فيها نص شرعي يجب اتباعه، وبهذا فقد سبقت الدولة الإسلامية النظم الديمقراطية الحديثة في ضرورة موافقة الجماعة على اختيار مَنْ يقوم بولاية أمورها ورعاية مصالحها.
مفهوم الشورى في الإسلام
وأفاض علماء اللغة في شرح مفهوم الشورى في الإسلام لغة واصطلاحًا، ومنهم ابن فارس الذي قال إن “الشين والواو والراء أصلان مطردان، والشورى مشتقة من مادة (شور) وشاوره واستشاره في الأمر”.
والشورى في النظام الإسلامي صورة من صور المشاركة في الحكم تستمد جذورها من أصول الدين وجذوره، وهي من أهم المبادئ الشرعية التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام، بل إن بعض الباحثين يرى أن الشورى هي النظام السياسي ذاته، وليس واحدًا من مبادئه، أو قاعدة من قواعده، نظرًا لما يترتب على الشورى في المنظور الإسلامي من بيان العلاقة بين الحاكم وأهل الشورى، والتزام الدولة بالقواعد المشروعة.
وتختلف الشورى عن المشورة، فالأولى تكون عامة في كل رأي، والثانية تكون خاصة في الرأي الملزم. ويقول الدكتور محمود الخالدي: إذا ما نظرنا بدقة في النصوص التفصيلية الواردة في الشورى نجد أن مدلولها يختلف عن مدلول كلمة المشورة، إذ تعني الشورى أخذ الرأي مطلقًا، ما كان ملزمًا لرئيس الدولة وما لم يكن ملزمًا، سواءً الذي يرجح فيه قوة الدليل كالأمور التشريعية وما يرجح فيه جانب الصواب كالأمور الفنية والفكرية فجاء التعبير فيها عاماً في كل الأمور.
وقد وردت كلمة المشورة في الحديث للدلالة على أخذ الرأي الملزم فقط وذلك في قوله- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما-: “وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدًا”.
الشورى في الإسلام من القرآن والسنة
لقد حث القرآن الكريم على تطبيق مبدأ الشورى في الإسلام حينما جاء الأمر مباشرًا من الله- عز وجل- إلى نبيه الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
وهذه الآية تدلُّ دلالة قويَّة على وجوب الشورى، من جهة أنَّها نزلت عقِب هزيمة المسلمين يوم أُحد، وفي ظروف يتَّضح منها أنَّ رأْي مَن أشار على النَّبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- لم يكن صوابًا، ومع ذلك فقد أنزل الله- سبحانه وتعالى- أمرَه بالعفو عنهم ومشاورتِهم، وهذا يؤيد عناية الإسلام بالشورى.
وفي موضع آخر، يقول الله- عز وجل-: ﴿ َمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 36- 38].
والذي يتأمَّل هذه الآية يجد أنَّ الله قد ذكر الشورى، كصفة من صفات عباده، بين ركنيْن أساسيَّين من أركان الإسلام، هما: الصَّلاة، والزَّكاة، وهذا يدلُّ على أهميَّة الشورى، وأنَّها واجبةُ التنفيذ مثل الصَّلاة والزكاة.
ودعا النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى الأخْذ بِمبدأ الشُّورى في كلِّ أمرٍ لم ينزل فيه وحْي من الله، ولم يمضِ فيه سنَّة من رسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى من طُلبت منه المشورة فعن أبي هُريرة- رضي الله عنه- عن النَّبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “المستشار مؤتمن” (رواه أبو داود والترمذي).
مواقف تربوية
وطبّق النبي- صلى الله عليه وسلم- مبدأ الشورى في الإسلام في العديد من المواقف، وذلك لتربية أصحابه الكرام عليه والالتزام به طوال حياتهم، ومن ذلك:
ما حدث يوم غزوة بدر عِندما خرَج للقاء القافلة العائدة مِن الشام فأفلتَتْ منه، وعَلم بخروج مُشركي قريش لحرْبه، فاستشار المسلمين الذين كانوا معه، فأشار عليه أبو بكر وعمر والمِقداد- رضي الله عنهم- ولكنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- كان يُريد الأنصارَ بهذه الاستِشارة؛ رغبةً منه في مَعرفة ما في نفوسهم، هل يُحارِبون معه خارج المدينة أم يُحاربون معه داخل المدينة فقط؛ تطبيقًا لما بايَعوه عليه في العقَبة.
فتبيَّن له- بعد أن فَطِنَ سيدُهم سعد بن معاذ مُرادَ النبي- صلى الله عليه وسلم- أنهم معه في المدينة وخارجها، وأن روابط الإيمان الراسخ أقوى مِن روابط المعاهدات، وبذلك اتَّضح موقف الأنصار جليًّا للنبيِّ- صلى الله عليه وسلم- وللمُهاجِرين الذين كانوا معه يومئذٍ، وكانت هذه الاستشارة للجَميع؛ ولكنَّها أُريد بها الأنصار.
وفي الغزوة نفسها، عِندما تحرَّك رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- بجيشه؛ ليَسبِق المشركين إلى ماء بدر، ويَحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل على أدْنى ماءٍ مِن مياه بدر، فقام الحُباب بن المُنذر- رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلَكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه ولا نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”.
قال (المُنذر): يا رسول الله، فإن هذا ليس بمَنزِل، فانهض بالناس حتى نأتي أدْنى ماء مِن القوم- قريش- فنَنزِله ونُغوِّر- أي: نُخرِّب- ما وراءه مِن القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا، فنملأه ماءً، ثمَّ نُقاتل القوم، فنَشرب ولا يَشربون، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لقد أشرْتَ بالرَّأي، ثمَّ تحوَّل النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- بالجيش إلى المكان الذي أشار به المُنذِر.
ولما كانت غزوة أحد وعلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتجهيز مشركي قريش أنفسهم لقتال المسلمين، للثأر مما حدث في بدر، وتأكد النبي من وصولهم إلى المدينة المنورة، عقد مجلسًا للشورى، ليقل لأصحابه عمّا رآه في رؤياه.
فحين أوّل لهم رؤياه بخوض الحرب مع مشركي قريش، شاورهم في مكان القتال، واقترح عليه- صلى الله عليه وسلم- بأن يقاتلوا المشركين في المدينة المنورة، فوافقه على رأيه أكابر المهاجرين والأنصار.
ولما عَلِم النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- في غَزوة الأحزاب، أن قريشًا وحلفاءها وقبائل غطفان قد خرجَتْ صَوب المدينة تُريد غزْوها واستِئصال مَن فيها، عقد مَجلِسًا استِشاريًّا شاوَر فيه أصحابه حول خطَّة الدِّفاع التي يَدفعون بها هذه الجيوشَ الجرَّارة، فأشار سلمان الفارسي- رضي الله عنه- بحفْر الخَندق لمنع دون دخول تلك الأحزاب إلى المدينة، فوافَق النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- على هذا الرأيِ وباشَر تطبيقه.
وفي بيعة العقبة الثانية، قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- للأنصار: “أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم”. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : “أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي”.
فالرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يعين النقباءَ إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسئولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارسوا الشورى عمليًّا من خلال اختيار نقبائهم.
ولما انتقل النبي- صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى اجتمع رؤساء القبائل والعشائر من المهاجرين والأنصار- وهم ممثلو الأمة الإسلامية آنذاك-، وبعد مناقشة وحوار؛ اختاروا أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- لرئاسة دولة الإسلام والقرآن التي أسسها المصطفى- صلى الله عليه وسلم-.
ولم يقل أحد منهم: إن رئاسة الدولة تؤخذ غصبًا وبحد السيف، بل انتقلت الولاية من بيت النبوة إلى من ليس من بيت النبوة، وهكذا كان اختيار الصديق- رضي الله عنه- برضا غالبية ممثلي الأمة الإسلامية وشعبها، وذلك هو فعل صحابة رسول الله ومنهم المبشرون بالجنة.
هكذا فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد أنزل مبدأ الشورى في الإسلام منزلته في حياة الأمة، إذ الحاجة إليه في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية، فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول في عقل، وبناء يساهم الجميع في إقامته، لذا قال الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: من الآية 38].
وربَّى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه، تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشكلات الأمة، ولم يحدث أن عاتب- صلى الله عليه وسلم- أحدًا لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه ومشورته.
المصادر والمراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة، ٣/٢٢٦.
- الجوهري: الصحاح، ١/٣٧٢.
- حسين بن محمد المهدي: صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، 2/33.
- الدكتور صالح بن حميد: الشورى في الإسلام.. رؤية نيابية، ص3.
- ابن منظور: لسان العرب، ٤/٤٣٤.
- الراغب الأصفهاني: المفردات ص٤٦٩-٤٧٠.
- المالكي: أحكام القرآن ٤/٩١.
- فتحية النبراوي: تاريخ النظم والحضارة الإسلامية ص24، 25.
- ابن هشام: سيرة ابن هشام 1/615.
- البيهقي: دلائل النبوة 3/34.
- ابن حبان: أخبار الخلفاء 1/255.
- ابن حبان: السيرة النبوية 1/166.
- ابن كثير: السيرة النبوية 2/198.