للعبادات الإسلامية أثرها الكبير في تربية الفرد والمجتمع، فهي رياضات روحية عميقة الجذور تنبع من فطرة النفس وترتبط بمعان سامية وتقوم بتنظيم حياة المسلم؛ فالصلاة تنظم أوقاته اليومية كما تنظم نومه ويقظته، والصوم يربي إراداته وينظم علاقته بشهوات نفسه ورغباتها، والزكاة تنظم حياة المجتمع الاقتصادية، ووحدة الأمة تنظمها وترعاها عبادة الحج، وكل هذه العبادات ترتبط بمعنى واحد هو العبودية لله – سبحانه وتعالى – وحده.
تعريف العبادة
العبادة تطلق على شيئين: التعبد؛ فهي بمعنى التذلل لله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه محبة وتعظيما، والثاني – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة”، ومثال ذلك الصلاة ففعلها عبادة وهو التعبد والصلاة ذاتها عبادة وهو المتعبد به.
الأثر التربوي للعبادة
العبادات في الإسلام تعلمنا الوعي الفكري الدائم؛ حيث إن شرطي قبول العبادة في الإسلام: إخلاص النية والطاعة لله، والإتيان بها على الشكل والأسلوب الذي سنه رسول الله، ويؤدي التدريب المتواصل للمسلم على مراقبة هذين الأمرين في نفسه إلى يقظته الدائمة وزيادة الوعي الفكري لديه، ويجعل الإنسان المسلم كذلك إنسانا منطقيا واعيا في كل أمور حياته، إنسانا منهجيا، لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة، ووعي وتفكير.
والعبادات تربي المسلم على الارتباط بالمسلمين ارتباطا واعيا متينا مبنيا على عاطفة صادقة. فالأعمال التعبدية التي يأتيها المسلم مع المسلمين تكسبه لذة الشعور بقوة الجماعة، وعواطفها المشتركة، إلى جانب لذة المناجاة الفردية، والشعور بقوة الذات المسلمة التي تستمد قوتها من خالقها بالدرجة الأولى، فإذا انفرط عقد المسلمين أو منعوا من الاجتماع لسبب طارئ، لم يفقد أفرادهم مقوماتهم الذاتية، ولكنهم يعملون على العودة إلى التجمع من جديد على أساس عقيدتهم، لعلمهم بأن عباداتهم منفردين لا تكون كاملة، ما داموا قادرين على التجمع.
والعبادات تربي النفس المسلمة على العزة والكرامة وإباء الضيم والاعتزاز بالله الكبير المتعال؛ فالمسلم الذي يكبر الله في صلواته كل يوم أكثر من مئة مرة، ويسمع تكبير الله على المآذن ثلاثين مرة كل نهار وليلة، فيرددها مع المؤذن يترسخ في شعوره أن الله أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم.
والعبادات الجماعية تعلم المسلم الشورى والمساواة والعدالة. حيث الجميع يناجون ربا واحدا، ثم إذا فرغوا تعارفوا وتناصحوا وتشاوروا، كل ذلك يعلم المسلمين الحياة الشورية، القائمة على التعاون، والمساواة، والعدل؛ لأنهم متساوون من حيث المبدأ أمام الله الذي أنزل القانون والتشريع.
والعبادات تربي المسلم على الفضائل الثابتة المطلقة مع الجميع في كل مكان، فالمسلم هو المسلم بأخلاقه وإنسانيته في كل زمان ومكان يكون فيه لأن ربه واحد يراقبه حيثما كان، وفي هذا أوضح دليل على عظمة المنهج التربوي الإسلامي حيث يقيمه الإسلام على أساس عبادة الله بمعناها الواسع الشامل، وعلى أساس الصلة الدائمة بالله، لا على أساس الأمور الدنيوية المحدودة.
والعبادات تزود المسلم بشحنات متتالية من القوة والثقة بالنفس والأمل والوعي والنور المستمد من نور الله، هذه الشحنات التي تدفع المسلم دائما إلى الإمام، وتهبه القدرة المستمرة على الدأب والجهد، وتقديم كل طاقاته حية منتجة، واعية مستمرة.
الأثر النفسي للعبادة
العبادات تجدد نفس المسلم بالتوبة والإنابة والاستغفار، والإسلام لا يعتبر أن اكتساب الإثم يعني انحراف الإنسان عن طاعة الله وعبادته بل يعتبر ذلك أمرًا طبيعيًا في الإنسان، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلُّ ابنِ آدمَ خطّاءٌ، وخيرُ الخطّائينَ التَّوّابونَ”، والتوبة من الذنب أو الإثم هي الرجوع عن ارتكابه، والعزم على تركه وأن يستبدل به الإنسان عملا صالحا، والإسلام يعتبر التوبة جزءا من العبادة؛ بل هي عبادة راتبة يومية ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستغفر بعد كل فريضة، وكان يستغفر كل يوم سبعين مرة، وقد أمر بها القرآن قال تعالى: {…وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31].
والتوبة تطهير مستمر للنفس، ورجوع مستمر إلى الله، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل صيغة للتوبة، والاستغفار فقال: “سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”، ومن قالها حين يصبح موقنا بها، فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها حين يمسي موقنا بها، فمات من ليلته دخل الجنة”.
وقد ثبت لدى علماء النفس، والطب النفسي أو الصحة النفسية، أن التوبة تشفي من كثير من الأزمات، والأمراض النفسية؛ لأنها تعين على إعادة تكيف الإنسان مع نفسه ، ومع مبادئه ومثله الأعلى، ومع مجتمعه القائم على المثل الأعلى، الذي هو عبادة الله في النظام الإسلامي، ومراقبته، كما أنها تربي المجتمع على التسامح بين أفراده.
وهكذا نرى أن الطريق الأمثل لبناء الإنسان الصالح الذي تنشده التربية هو تربية الأفراد عن طريق غرس القيم الدينية الصحيحة، وذلك أن للدين سلطانا على القلوب والنفوس لا يدانيه في سلطانه وتأثيره شيء آخر، والتربية الإسلامية نظام متكامل شأنه شأن غيره من الأنظمة الإسلامية الأخرى – كالنظام التشريعي والنظام الاقتصادي والنظام السياسي – وجاء كذلك متفردا في غاياته وأسسه ومنطلقاته كما جاء متميزا في وسائله وآدابه وتطبيقاته.
المراجع:
- ابن تيمية: كتاب العبودية.
- عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع.
- محمد بن صالح العثيمين: القول المفيد على كتاب التوحيد.