انتشر مفهوم العولمة الثقافية على المستوى العلمي والإعلامي مُنذ وقت قريب، وأصبحت لا تترك مجالًا إلا ودخلته، لكن تأثيرها الأكبر يقع على الأطفال، فهم الفئة الأكثر حساسية وخطورة فيما يتعلق بالتأثيرات الثقافية والميديا الحديثة التي يفرضها النظام العالمي الجديد.
إنّ السمات والخصائص الثقافية التي يكتسبها الفرد في مرحلة الطفولة تُشكّل الشخصية المرجعية لوجوده وحياته في مختلف مراحل الحياة، وللنهوض بثقافة الطفل وإكسابها مناعة صعوبة الاختراق يجب العمل في اتجاه بناء ثقافة نقدية يمكنها أن تتجاوب مع العصر بتحدياته وإشكالاته. العولمة الثقافية في تربية الطفل.. كيف نواجه أخطارها؟
مفهوم العولمة الثقافية
العولمة الثقافية هى نوع من أنواع العولمة التي تشير إلى العملية الديناميكية للربط البيني واستيعاب الثقافات، والتي تنشأ منها ثقافة متجانسة ومشتركة في العالم.
وهي عملية تغطي- من حيث المبدأ- الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لكنها تُؤثر على كل من الطُّرق الإيجابية والسلبية لتنوع الثقافات الموجودة. وهي نتيجة لمجموعة من التدابير التي تسعى إلى التطوير المستمر للمجتمع، والتي عزّزت وزادت العلاقات الدولية والتبادلات الثقافية وزادت بشكل كبير، بين الأفراد الباحثين عن فرصة للتنمية الفردية.
ويرى آخرون أنها بمعنى التنقل السريع للأفكار، والقيم، والمعاني، والمنتجات الثقافية عبر الحدود الماديّة للأمم والدول. وتتحقق من خلال تداول الأفكار والمعاني والقيم الخاصة بأمةٍ أو شعبٍ ما لتنتشر وتشمل أنحاء العالم كافة، وتهدف إلى تعزيز العلاقات الاجتماعية وتوسيعها، وتنفرد بتركيزها على نشر الثقافات الشائعة والمتداولة عبر الشبكة العنكبوتية والتواصل الاجتماعي (1).
ويراها الدكتور محمد أحمد عبد الهادي رمضان: بروز عالم بلا حدود ثقافية، فيه تتنقل الأفكار والمعلومات والقيم والأنماط السلوكية بِحُريّة كاملة في اتجاه تكوين ثقافة إنسانية واحدة، على أساس أن طبيعة الإنسان واحدة، واحتياجاته واحدة، أينما وُجِدَ على هذا الكوكب.
مظاهر العولمة الثقافية
وتنتشر مظاهر العولمة الثقافية وسط الشعوب الإسلامية، فنراها في استخدام الكلمات الأجنبية، وغزو الثقافة التكنولوجية، وهيمنة الأنماط المعيشية الغربية عليها. ويجمل الدكتور محمد أحمد عبد الهادي رمضان بعض هذه المظاهر التي انتشرت في مجتمعاتنا وأثرت على النشء وأولادنا، ومنها:
- اختفاء العديد من التقاليد والعادات العربية والإسلامية الحميدة في البلاد العربية، سيّما في مناطق الحضر، وهو ما ظل يسعى له الغرب بشتى الطُّرق في طمس الهوية الإسلامية.
- سيادة الصورة السمعية والبصرية التي أضعفت الثقافة الشفوية والمكتوبة، سيّما لدى النشء والشباب، وتولت العديد من أدوارها بسرعة وكفاءة عالية لتشكيل شخصياتهم.
- التقليد الأعمى لكل ما هو غربي دون تمييز في اللبس والمأكل والمشرب، وفي الاحتفالات في المناسبات العامة والخاصة وسواها.
- تغلغل الثقافة الاستهلاكية بين مكونات المجتمعات العربية وشرائحها، حتى وصلت إلى أقاصي المناطق الريفية النائية، وذلك على حساب الثقافة الإنتاجية.
- تراجع دور الدول وقوى المجتمعات العربية في المحافظة على أنماط الثقافات الوطنية والتزام السكان بها، بل رأينا الكثير من الأنظمة تدفع شعوبها لتقليد الغرب في كل شيء، كما قال طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: “يجب أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقتهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها”.
- انتشار مظاهر الفردية والأنانية والغربة وما يترتب على ذلك من تراجع صور الانتماء للأسرة والجماعة والقبيلة والمنطقة والمجتمع.
- ضعف انتماء النشء والشباب العربي إلى أوطانهم وأمتهم، لأنّ تلاشي الزمن والمكان الناتج عن تقنية الإعلام والاتصالات والمعلومات أضعف ارتباطهم بالأرض والأهل والواقع وهمومه، وأصبح كل اهتمامهم بكل ما هو غربي والحلم في الغرب.
- بروز تناقضات وصراعات إثنية بين هويات أجيال المجتمعات العربية، وبين الجيل القديم والجيل الجديد، وبين قوى المجتمع وشرائحه (1).
إيجابيات وسلبيات
لم يأمرنا الإسلام برفض كل ما تقدمه الحضارات الأخرى، بل أمرنا بفتح سبل التواصل فيما بيننا لنشر المفاهيم السمحة للإسلام. ومع ذلك أمرنا بالتمييز وعدم قبول كل ما تنتجه الحضارات الأخرى لكن ما يكون متوافقًا مع تعاليم ديننا ومناسب لطبيعة ثقافتنا.
فالتواصل مع الغير له إيجابيات وسلبيات- خاصة على النشء- ويجب أن نلتفت له ونضعه في عين الاعتبار، ومن إيجابيات العولمة الثقافية ما يلي:
- تبادل الثقافات والدفاع عن القيم والمثل العليا للفرد على الصعيد العالمي.
- تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الآخرين عن الثقافة العربية والإسلامية.
- المعرفة والوصول لمنتجات ثقافيَّة جديدة، مثل الفن والترفيه والتعليم.
- معرفة وفهم القيم والمواقف الأجنبيَّة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الثقافات الأخرى.
- الوصول الفوري للمعلومات في أي مكان حول العالم عن طريق التكنولوجيا الحديثة.
أما السلبيات فتتمثل في:
- انتشار الثقافة الاستهلاكيَّة القائمة على احتكار السلع بسبب الهوس بالمنتج الغربي وعدم تشجيع الصناعة المحلية.
- طمس الهوية وظهور التغريب والإمبراليَّة والاستعمار الثقافي والسير في ركاب الغرب والدفاع عن كل ما ينتجه.
- انتشار الأفكار والمثل الغريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية واستنكار تقاليدنا وعاداتنا وإحلال التقاليد والعادات الغربية على حساب عادتنا خاصة النشء (3).
أثر العولمة على الجانب الديني والمعرفي للطفل
إنّ العولمة الثقافية تندرج تحت منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانب السياسي بالجانب الاقتصادي، والجانبان معا يتكاملان مع الجانب الاجتماعي والثقافي، وهو بمثابة تدخل تمارسه الأطراف الأقوى في الساحة الدولية، التي تفرض نظامًا عالميًّا جديدًا للثقافة وللتبادل الثقافي، وهو نظام قادر على النفاذ لمنظومات القيم والمبادئ والتراث الثقافي في هذه المجتمعات، وهو ما يعود بالتأثير السلبي على تربية الأطفال في ظل ضعف المنظومة الأسرية والتعليمية والدينية في المجتمعات الإسلامية، ومن هذه السلبيات:
- مناهج التعليم التي يعمد الغرب لفرضها على الدول الإسلامية بمعاونة حكامها، تفسد الفكر وتبعد الطالب عن قيمه، وهي بمثابة إفساد للعقل لا بنائه.
- انكشاف الأطفال على ثقافات لا تناسب سنّهم وهو ما يؤثر بالسلب عليهم، بل ويسبب القلق لدى الأسرة التي تخشى على أطفالها.
- تأثيرها على اللغة والدين، حيث يقول المبشر (تكلى): “يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني؛ لأن المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية، وتعلموا اللغات الأجنبية”.
- زيادة العزلة الاجتماعية والانطواء، بسبب انشغال الأطفال بالتكنولوجيا والمضامين التي تعرضها لهم.
- تأثر الأطفال بالمعروض الذي يحتوي أكثره على مضامين تغذي العنف عند الأطفال، والذي قد يصل أثره إلى استغلال الأطفال جنسيا أو بصورة غير لائقة.
- ومن الآثار- أيضًا- التسرب المدرسي أو عدم قدرة الطفل على مواصلة التعليم لانشغاله بالتطور التكنولوجي وكل ما يعرض عليه (4).
كيف نواجه أخطار العولمة؟
إن التنشئة الاجتماعية في المجتمعات اليوم تمرُّ بأزمة حقيقية خلَّفتها ظروف التغير الاجتماعي والاقتصادي، والانفتاح على الثقافات العالمية، حيث لم تعد المؤسسات التقليدية للتنشئة (الأسرة، المسجد، المدرسة) وحدَها، هي التي تسيطر على نقل المعايير والقيم، بل تنافسها وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما يجعل الصراع محتدم من أجل خلق جيل متزن لا يتأثر كلية بما تمليه عليه العولمة الثقافية وتداعياتها، وهو ما يتطلب حسب ما ذكره الدكتور إيهاب إبراهيم- أستاذ الفلسفة في التربية النوعية جامعة عين شمس، الآتي:
- العناية بمناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب بأشكال متعددة ووسائل حديثة.
- مواجهة مساوئ العولمة بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية.
- تنمية التفكير بوسائل تربوية منهجية وتطوير حوار للتعايش مع الحضارات، يرتكز على روح العلم والتفكير النقدي وحرية الرأي والتحرر من رواسب الماضي مع الحفاظ على الموروث الحضاري والديني والثقافي.
- التنسيق والتعاون بصورة متكاملة بين وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والثقافة والإعلام، والأوقاف والشؤون الإسلامية، والعدل، للمحافظة على الهوية الإسلامية من أي مؤثرات سلبية.
- تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى، وإثراء ثقافتنا العربية الإسلامية بما نراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى.
- إدخال المفاهيم والمعلومات المتعلقة بظاهرة العولمة في المناهج الدراسية كافة، بحيث تراعي المستوى العمري والعقلي للطلاب حسب مستوى مرحلتهم التعليمية، وذلك بهدف إثارة الاهتمام.
- زيادة الأنشطة المتعلقة بالعولمة وآثارها في المؤسسات التعليمية والتربوية، من خلال المسرحيات والمسابقات وإصدار المنشورات والمطويات التعريفية، وإقامة المعارض.
- ضرورة اهتمام الباحثين والدارسين بمعالجة ظاهرة العولمة ونتائجها وتأثيراتها على الهوية الوطنية والقيم الحضارية للمجتمعات (5).
المصادر والمراجع:
- معنى العولمة الثقافية (ما هو المفهوم والتعريف)، https://bit.ly/3rSyVC3
- وانظر: فراس أبو عامر: مفهوم العولمة الثقافية، 30 ديسمبر 2020، https://bit.ly/3qLW5L0
- محمد أحمد عبد الهادي رمضان: أهم مظاهر العولمة الثقافية في بلداننا العربية، https://bit.ly/3tKnnDg
- سلوى الحديد: ما إيجابيات وسلبيات العولمة الثقافية؟، 8 أبريل 2021، https://bit.ly/32lBa88
- فطيمة سبقاق: الطفل والتنشئة الاجتماعية في ظل العولمة، 15 نوفمبر 2018، https://bit.ly/3AeE4rE
- إيهاب إبراهيم السيد محمد: العولمة وأثرها على تغير القيم داخل المؤسسات التعليمية، 30 أغسطس 2019، https://bit.ly/3IjzkUz