تميّزت الحضارة الإسلامية بحبها الشديد للكتب كونها من وسائل نشر المعرفة، لذلك أنشأت المكتبات الإسلامية وجعلتها في متناول جميع أفراد الشعب دُونما اعتبار لعُمر أو جنس أو دين أو لون أو ثقافة، فلم تكن حكرًا على العلماء والباحثين.
وعَرفت الحضارة الإسلامية أنواعًا متعددة من المكتبات التي كان لها دور كبير في تربية الأجيال، حيث وُجدت في قصور الخلفاء، وفي المدارس، والكتاتيب، والجوامع، وفي عواصم الإمارات والقرى النائية، والأماكن البعيدة.
مفهوم المكتبات الإسلامية ونشأتها وتطورها
وتُعرف المكتبات الإسلامية بأنها مجموعة من المؤسسات الفكرية التي يُوجد فيها كتب متنوعة في أشكالها، ومحتوياتها، وتهدف هذه المكتبات إلى تنظيم وتحليل هذه المحتويات، وهي عبارة عن مؤسسات تربوية، وثقافية، وعلمية، واجتماعية هدفها جمع المعلومات من مصادر مختلفة، وترتيبها بطريقة منظمة، لكي يُمكن الحصول عليها بسهولة، وهي- أيضًا- الوجهة الرئيسية لأي شخص يرغب في التعرف إلى قدر من المعلومات في تخصص معين.
ويعرفها البعض، بأنها المؤسسات التي تَجمع وتحفظ العلم للأجيال القادمة، وترتبه وَفق خطط مدروسة، وتهيئه وتُقدّمه للباحثين وطلاب العلم والمعرفة في الوقت المناسب، بغض النظر عن أجناسهم أو أعمارهم أو مستوياتهم الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو أديانهم أو جنسياتهم.
وقد تميزت المكتبات في ظل الحضارة الإسلامية بمسميات متعددة منها: بيت الحكمة، وخزانة، ودار العلوم أو دار الحكمة.. وبالنسبة للنشأة والتطور، فقد مرت بثلاث مراحل هي:
- مرحلة الحضانة وتأسيس الجذور: وهي في القرن الأول الهجري، حيث انصب اهتمام المسلمين في البداية على تدوين القرآن والحديث الشريف، وكان ذلك النواة الأولى لتكوين المكتبات والمساجد في الإسلام، حتى جاء خالد بين يزيد بن معاوية (ت ٨٥هــ) فأسس أول مكتبة إسلامية في هذه المرحلة.
- مرحلة النمو والتطور والازدهار: من القرن الثاني وحتى بداية القرن السابع الهجري، حيث بدأت بعد تأسيس الدولة العباسية بفترة وجيزة، وفيها استمرت حركة الترجمة والتأليف والاطلاع على حضارات الأمم الأخرى، وأسست المعاهد والمدارس المختلفة وامتلأت الديار الإسلامية بالعلماء والفقهاء وطلاب العلم، وكان أوج النهضة المكتبية زمن المأمون (198هــ – 218هــ) الذي شجع العلم والعلماء وفتح مدارس الترجمة والتأليف والبحث.
- مرحلة الانحطاط: من القرن السابع الهجري حتى بداية العصر الحديث، حيث بدأت المكتبات الإسلامية بالتقهقر نتيجة لعوامل مختلفة منها، داخلية: شملت التفكك السياسي بسبب الفتن والحركات السياسية والدينية المختلفة، وظهور عادات سيئة مثل حرق الكتب، وعوامل خارجية: كالغزو المغولي الذي أحرق مكتبة بيت الحكمة في بغداد، والغزو الصليبي الذي أحرق مكتبة بني عمار في طرابلس الشام، وكذلك الإسبان الذين أحرقوا كثيرًا من مكتبات المسلمين في الأندلس.
أشهر المكتبات الإسلامية
وظهرت المكتبات الإسلامية في التاريخ الإسلامي على هيئة مكتبات أكاديمية، ومكتبات خاصة، ومكتبات عامة، ومكتبات مدرسية، وأخرى في المساجد والجوامع، كالتالي:
- المكتبات الأكاديمية: وهي من أشهر المكتبات في الحضارة الإسلامية، ومن أهمِّها مكتبة بغداد أو بيت الحكمة.
- المكتبات الخاصَّة: وهذا النوع انتشر في جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ ومن أهمها مكتبة الخليفة المستنصر، ومكتبة الفتح بن خاقان، ومكتبة ابن العميد وزير آل بويه الشهير، ومكتبة القاضي أبي المطرف الذي جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل عصره في الأندلس.
- المكتبات العامَّة: وهي مؤسسات ثقافية يُحْفَظُ فيها تراث الإنسانية الثقافي وخبراتها؛ ليكون في متناول المواطنين من جميع الطبقات، والأجناس، والأعمار، والمهن، والثقافات؛ وكان من أمثلتها: مكتبة قرطبة التي أسَّسَهَا الخليفة الأموي الحكم المستنصر سنة (350هـ/ 961م) في قرطبة، ومكتبة بني عمار في طرابلس الشام.
- المكتبات المدرسية: فقد انتشرت المدارس في الإسلام انتشارًا واسعًا في مدن العراق وسوريا ومصر وغيرها، وأُلحقت بمعظم هذه المدارس مكتبات، فنور الدين محمود بنى مدرسة في دمشق وألحق بها مكتبة، وكذلك فعل صلاح الدين.
- مكتبات المساجد والجوامع: وهذا النوع من المكتبات الأوَّل في الإسلام؛ حيث نشأت المكتبات في الإسلام مع نشأة المساجد، ومن أمثلتها: مكتبة الجامع الأزهر، ومكتبة الجامع الكبير في القيروان.
الدور التربوي للمكتبة في الإسلام
ولقد أسهمت المكتبات الإسلامية بدور كبير في تربية الأجيال، سواء من عاش في بلاط الخلفاء، أو العامة في البيوت المتواضعة والكهوف، حيث كانت هي الطريقة المتبعة قديمًا لنشر العلم، سيما أن المخطوطات كانت غالية الثمن، فكانت المكتبات في العالم الإسلامي بمثابة المعاهد العلمية في العصر الحديث.
والكتاب هو أداة العلم ووسيلة التربية في كل عصر من العصور، لذلك قال عنه الجاحظ إنه هو “المعلّم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك (الخفر: شدة الحياء)، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبّت ريح أعاديك لم ينقلب عليك، ومتى كنت منه متعلّقًا بسبب أو معتصمًا بأدنى حبل، كان لك فيه غنى من غيره، و لم تضطرّك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء”.
وتركت المكتبات في الحضارة الإسلامية بصمات تربوية كبيرة، من خلال:
- تيسير سبل المطالعة والقراءة وتوفير أهم المؤلفات العلمية والتربوية: وقد اهتم المسؤولون ببناء هذه المكتبات والإشراف عليها وتهيئة الأجواء المناسبة لطلبة العلم، فخصصت بعض الحجرات للمطالعة وبعضها الآخر للنسخ والترجمة، وبعضها للحلقات العلمية والمناظرات.
- تثقيف المجتمع وتعليمه: وذلك من خلال تبسيط شرائع الدين والتدريب على العلوم والفنون الإسلامية، لذلك ارتبط إنشاء هذه المكتبات في الإسلام بتشييد المساجد والجوامع، فكان المسجد هو المنطلق الحقيقي لمعترك الحياة الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية، فهو المركز الطبيعي والوحيد لدراسة العلوم الشرعية واللغوية، فالمكتبة الإسلامية في المسجد لها دور تربوي ودور علمي ودور اجتماعي، إضافة إلى دورها الديني.
- مركز للتربية والتعليم: حيث كانت هذه المكتبات قسمًا مهمًّا من أقسام المؤسسات التّربوية والتعليمية التي ظهرت في الإسلام، مثل المدارس والكتاتيب والمعاهد والجامعات، ولوحظ أن جميع منشئي المدارس في الإسلام ألحقوا بها خزائن للكتب وكانت خزانة الكتب شيئًا أساسيًا في عملية التربية والتعليم في الإسلام.
- تنمية قدرات الطلاب في جمع الإنتاج الفكري وحفظه للمستقبل: وذلك من خلال البحث والتنقيب وتأليف الأبحاث عن موضوعات بعينها، وهو ما ينمي لديهم خُلُق الصّبر، والتعلم المستمر من أجل رفعة الدين.
- بناء المواطن الصالح في المجتمع: وهي من البصمات التربوية التي تخلفها المكتبات في الإسلام، إذ تشمل على كتب في الشريعة والفقه والعلوم الإسلامية المختلفة التي تؤثر في القراء والمتعلمين.
- تنمية القيم الاجتماعية والتربوية: وذلك خلال الأنشطة المكتبية المختلفة حيث يمارس الطلاب ألوانًا من النشاط الذي ينمي لديهم المعرفة والوعي بأهمية العمل التعاوني وتحمل المسؤولية والتعود على الصبر وخدمة الغير واحترام آراء الآخرين وشعورهم والمحافظة على المكتبة والكتب تحتويها.
إن الحضارة الإسلامية قد رفعت من شأن العلم والعلماء، فنشأت المكتبات في كل العواصم والمدن الإسلامية، سواء التي ألحقت بقصور الخلفاء أو التي التصقت بالمساجد وكذلك التي بنيت مستقلة ليزورها طلاب العلم من كل صوب وحدب، فيتعلمون فيها ويتربون ويؤلفون، فينتشر العلم والخير في أرجاء المعمورة.
المصادر والمراجع:
- الأنباء الكويتية: المكتبات في الإسلام منارات ثقافية ومنتديات اجتماعية.
- ماذا تعرف عن مكتبات الحضارة الإسلامية؟
- أشهر المكتبات في العالم الإسلامي.
- ابن كثير: البداية والنهاية 13/186.
- الذهبي: تاريخ الإسلام 28/61.
- ربحي مصطفى عليان: المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية ص 134.
- سعيد أحمد حسن: أنواع المكتبات في العالمين العربي والإسلامي، ص 26.
- الجاحظ: الحيوان، 1/39.