العزة هي حالة نفسية تصاحبها قوة معنوية، وتنبثق منهما أقوال وأفعال تدل على الشعور بالفخر والاستعلاء والاستقلال، ومن أعلى مراتبها الاستعلاء عن الكافرين، وصدق الانتماء لهذا الدين، وهو المعنى المتمثل في الولاء والبراء. والعزة ليست تكبرًا أو تفاخرًا، وليست بغيًا أو عدوانًا، وليست هضمًا لحق أو ظلمًا لإنسان، وإنما هي الحفاظ على الكرامة والصيانة لما يجب أن يصان، لذلك لا تتعارض مع الرحمة، بل لعل خير الأعزاء هو مَن يكون خير الرحماء.
فضائل العزة وأقسامها
ومن فضائل العزة أنها تربط العبد بالله لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، فمعناه من كان يريد أن يُعز فليكتسب العزة من الله فإنها له ولا تنال إلا بطاعته، ومن فضائلها أنها:
- تحقق للفرد المسلم قوته وشرفه وكرامته وكبرياءه، من غير تعد وترفع على الخلق بغير حق، وتحمي المسلم من الانحراف، وذلك حين يستعلي المسلم بعزة نفسه على شهواته وملذاته المحرمة، ترفعًا عن مواطن الحمق والرذيلة والمهانة.
- تُحرر المسلم من رق الأهواء والركوع والخضوع للمخلوقين وتجعله لا يسير إلا وفق ما شرع الله ورسوله.
- تحرر المسلم من ذل الطمع والجشع الذي يجعله عبدًا لدرهمه وداره ومركبه، فتجده غير مقتنع بما قسم الله له، حتى يذهب لأكل الحرام من دون أدنى مبالاة.
- تحقق للمسلم كيانه وشخصيته في ظل تعاليم الإسلام.
- تُحقق للأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم، فتجعلها قائدة لا مقودة، وسيدة لا مسودة.
وبالنسبة للعزّة الممدوحة، فهي التي لله ورسوله وللمؤمنين، فهي عزة حقيقية دائمة؛ لأنها من الله وبالله الذي لا يغالب ولا يقاوم سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
أما العِزّة المذمومة فهي التي يتخذها الكافرون، قال تعالي: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}، قال سبحانه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} (مريم:81-82).
دور الأسرة في التربية على العزة
أولًا: تربية النشء على الإيمان بالله أولًا.
ثانيًا: تربيته على العبادات الأساسية، وتنمية المخزون العبادي لديه؛ تحقيقًا لقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر:10).
ثالثًا: تربيته على مدارسة سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- العطرة وأصحابه الكرام والسلف الصالح، وملء قلوبهم بحبهم والاقتداء بهم، وتنمية الاعتزاز بهم.
رابعًا: تربيته على خلق التعفف عما في أيدي الناس، فالتعفف عما في أيديهم يترتب عليه عدم إذلال نفسه للآخرين، فلا يأخذ وهو ذليل النفس بل يأخذ وهو مرفوع لرأس، ويعطي وهو مرفوع الرأس.
خامسًا: امتثال الأبوين لمنهجية القدوة الصالحة في البيت، التي من شأنها تربيتهم على الفضائل واكتساب الأخلاق الحميدة من أبويهم، ومنها العزة.
سادسًا: التعامل السليم مع الأبناء في معالجة أخطائهم فلا نكسرهم بالعقاب الزائد، أو العقاب المذل، ونجنب أماكن العزة فيهم العقاب.
مواقف عملية في العزّة
وحفلت السيرة النبوية بمواقف عديدة عن العزة والكرامة، ومن ذلك موقف النبي- صلى الله عليه وسلم- مع أبي طالب، فقد “جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا ، فانهه عنا . فقال : يا عقيل انطلق فأتني بمحمد . فانطلقت إليه ، فاستخرجته من كبس أو قال حفش يقول : بيت صغير . فجاء به في الظهيرة في شدة الحر ، فلما أتاهم ، قال : إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم ، فانته عن أذاهم ، فحلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ببصره إلى السماء ، فقال : ” ترون هذه الشمس ” . قالوا : نعم . قال : ” فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة ” . فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط ، فارجعوا” [1].
وعن طارق بن شهاب، قال: خرج عمر بن الخطَّاب إلى الشَّام، ومعنا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأتوا على مَخَاضَة (الخوض: المشي في الماء)، وعمر على ناقة له، فنزل عنها، وخلع خُفَّيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخَاضَة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا، تخلع خُفَّيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخَاضَة؟ ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك. فقال عمر: “أَوَّه (كلمة توجع وتحزن)، لم يقل ذا غيرك- أبا عبيدة- جعلته نكالًا لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العِزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله” [2].
وعن حكيم بن حزام، قال: كان محمَّد- صلى الله عليه وسلم أحبَّ رجل من النَّاس إليَّ في الجاهليَّة، فلما نُبِّئ صلى الله عليه وسلم-، وخرج إلى المدينة، شهد حكيم الموْسِم وهو كافر، فوجد حُلَّة لذي يَزَن تُبَاع، فاشتراها ليهديها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقَدِم بها عليه المدينة، فأراده على قبضها هديَّةً، فأَبَى. فقال: إنَّا لا نقبل من المشركين شيئًا، ولكن إن شئت أخذتها منك بالثَّمن، فأعطيته إيَّاها حين أبى عليَّ الهديَّة، فلبسها، فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر شيئًا أحسن منه يومئذ، ثمَّ أعطاها أسامة بن زيد، فرآها حكيم على أسامة، فقال: يا أسامة، أنت تلبس حُلَّة ذي يَزَن؟! فقال: نعم، والله لأنا خير من ذي يَزَن، ولأبي خير من أبيه. قال حكيم: فانطلقت إلى أهل مكَّة، أُعجِّبهم بقول أسامة” (رواه الطَّبراني والحاكم).
ولم يكن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قارئًا عالمًا عابدًا زاهدًا فحسب؛ وإنما كان- مع ذلك- قويًّا حازمًا مقدامًا يشعر دائمًا بعزة الإسلام، فحسبه أنه أول مسلم على ظهر الأرض جهر بالقرآن بعد رسول الله.
فقد اجتمع يوما أصحاب رسول الله في مكة، وكانوا قلة مستضعفين- فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم إياه؟! فقال عبد الله ابن مسعود: أنا أسمعهم إياه. فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بشر.
فقال دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم- رافعاً بها صوته- ( الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ) ومضى يقرؤها فتأملته قريش وقالت: ماذا قال ابن أم عبد؟! تبا له، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد؛ وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.
ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن، وإن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً فقالوا: لا، حسبك، لقد أسمعتهم ما يكرهون.
إن العزة تمتاز في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصُّبح من الدجى؛ إذ هي ارتفاع النفس عن مواضع المهانة، أما الكبرياء فهو استنكاف النفس أن تأتي صالحًا؛ بتَخَيُّل أنَّ ذلك العمل لا يليق بمنزلتها، أو تعظُّمها عن أن تجامل ذا نفس زكية؛ بزعم أَنه غيرُ كفءٍ لها.
ويقابل العزةَ الضِّعةُ، وهي انحدار النفس في هُوَّة المهانة، ويقابل الكبرياء التواضع، وهو إذعانها للحق ونظرها إلى ذي النفس الزاكية أو المستعدة لأن تكون زاكية نظر احترام أو عطف وإشفاق، والفرق بين حقائق هذه الأخلاق سهل المأخذ، ولا يكاد يخفى أمره على عامة الناس فضلًا عن خواصهم.
المصادر والمراجع:
- [1] رواه البخاري في ” التاريخ ” عن محمد بن العلاء عن يونس بن بكير. ورواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عنه به. وهذا لفظه.
- [2] (رواه الحاكم وصحَّحه الألباني).
- مجدي الهلالي: نظرات في التربية الإيمانية، ص 19.
- العزة والتواضع.
- نماذج في العِزَّة عند الصَّحابة رضي الله عنهم.
- العزة.
- تربية العزة في الإسلام، الباحث رشيد الحسن.