في ظل تشابكات الحياة المعاصرة، تزداد الحاجة إلى معرفة كيفية مواجهة الضغوط النفسية التي تُؤثر سلبًا على الجسم، فتُصيبه بأمراض الجهاز الدوري، مثل النّوبات القلبية، وارتفاع ضغط الدم، واضطراب النّبض، والذبحات الصدرية، كما تُصيبه بأمراض الجهاز الهضمي، مثل القُرح، والسكري، إضافة إلى الأمراض التناسلية، والصّدرية، والجلدية، والمسالك البولية، وفوق كل ذلك ضعف جهاز المناعة.
وعلاجُ هذه الضّغوط، يحتاج إلى عملية شاملة متكاملة تجري عبر خطوات ومراحل مرتبة، إضافة إلى عددٍ من المتغيّرات التي تُحدد مدى فعالية هذه العملية، وهو ما نوضحه في المقال التالي بالتفصيل.
مواجهة الضغوط النفسية بالاستعداد
وتجري عملية مواجهة الضغوط النفسية المتراكمة، لحماية الجسد من الأمراض، وتحقيق الاستقرار للنفس، والتغلّب على صعوبات الحياة، من خلال عدة خطوات أولها الاستعداد:
يُمثل الاستعداد الخطوة الأولى في مواجهة الضغوط النفسية التي تؤثر سلبًا على الجسد والروح، ويعتمد هذا الإجراء على مدى تصور الإنسان للحياة تصورًا صحيحًا وما يمكن أن يلاقيه فيها، والمنهج الإسلامي يُقدم التصور الصحيح للحياة الدّنيا وأنها دار ابتلاء واختبار، ولا تستقر على حال واحدة، فلا يدوم نعيمها ولا يدوم شقاؤها.
يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، وفي الحديث الشريف: “قيل: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثمّ الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه، فإن كان في دِينِه صلابةٌ، زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ” (أخرجه الدّارمي عن سعد بن أبي وقاص وصححه الألباني).
وقال أبو العتاهية في هذا المعنى:
إنما الدنيا هبات * وعوار مستردة
شدة بعد رخاء * ورخاء بعد شدة
تحديد مستوى التغير في الحياة
إن فهم الظروف السابقة يؤدي إلى حسن مواجهة الضغوط النفسية وفهم ما يحدث للجسم والعقل عندما يتعرّض لمواقف مُهددة أو ضغوط متزايدة، كما أنّ الفرد يُصبح واعيًا بالطبيعة التفاعلية بين الذات والبيئة، وأهمية إدراك الموقف في تحديد الاستجابة له.
فالضغوط نتيجة علاقة مُعقّدة بين الفرد والبيئة التي يعيش فيها، وخلال دورة الحياة يُواجه الفرد سلسلة من التغيّرات تكون في بعض الأحيان خارج السيطرة وبرغم ذلك ينبغي التعامل معها وإدارتها، وكلّما زاد عدد التغيرات التي ينبغي على الفرد مواجهتها، كان تعرّضه للمعاناة من الضغوط متزايدة.
وفي هذه الخطوة، على الفرد أن يَعِي التغيرات الجوهرية في حياته، وأنْ يُراجع هذه الخطوة بين الحين والآخر، لمعرفة مستوى الضغوط لديه.
الكشف المبكر للضغوط
الهدف من هذه الخطوة الكشف عن العلامات المُنذرة بحدوث الضغوط، وبمجرد الوصول إلى ذلك الهدف قبل حدوث التأثيرات السلبية، فإنّ الفرد يكون قد تخلّص من عقبة رئيسية في مواجهة الضغوط النفسية، وترجع أهمية الكشف السريع للضغوط المتزايدة لسببين:
الأول: خفض احتمال ظهور الآثار المهددة، ومن ثمّ انخفاض تأثيراتها السلبية على الفرد.
الثاني: أن الأفراد يُمكنهم التعافي بشكل أسرع، إذا كانت الضغوط التي تعرّضوا لها قد استمرت لفترة قصيرة، لأنّ الضغوط المُزمنة تحتاج إلى فترة زمنية طويلة حتى يتحقق التعافي.
تطوير النظرة للمستقبل
بعد الانتهاء من عملية التشخيص في الخطوات السّابقة ينبغي على الفرد أن يكون لديه فكرة كاملة عن العوامل التي تُسهم في زيادة الضغوط، ويحتاج الفرد بعض الوقت في تأمل ما حصل عليه من بيانات ومعلومات، ثمّ معرفة إمكاناته ومصادره التي يستخدمها في مواجهة الضغوط النفسية، وعندئذٍ يُصبح من المهم النظر إلى المستقبل واحتياجات الفرد فيه وهذا ما يُساعد على اختيار الاستراتيجيات المناسبة لإدارة الضغوط.
تقليل مستوى الضغوط
تتطلب عملية مواجهة الضغوط النفسية تنظيم الاستفادة من الموقف الذي يَمرّ به الفرد، وهذا يعني الحصول على أفضل نتائج مُمكنة في مجموعة معينة من الظروف، ويحتاج الفرد إلى مواصلة التوازن بين الإمكانيات والمتطلبات حتى يتمكّن من إنجاز هذا الهدف.
التدريب على الاسترخاء
يستند التدريب على الاسترخاء إلى مُسلمة مؤداها التفاعل المتبادل بين الجسم والنفس، وأنّ التوتر يُؤدي إلى توترات عضلية وإجهاد في عددٍ من أجهزة الجسم، كما أن آلام الجسم تؤدي إلى تغيرات انفعالية واضحة.
ومن ثمّ فإنّ تحقيق درجة من الاسترخاء يُؤدي إلى تحسن الحالة النفسية، ولمّا كان التوتر العضلي عرضًا شائعًا في حالات التعرض للضغوط، فإن استخدام التدريب على الاسترخاء يُعد أحد الأساليب المهمة في مواجهة الضغوط النفسية.
ونود هنا أن نلفت النظر إلى أن العبادات الإسلامية تُحقق الاسترخاء ولها فوائد عظيمة، فعلى سبيل المثال: إذا أراد الإنسان الصلاة توضّأ بالماء، وللمَاء آثار منعشة ومجددة للنشاط، ثمّ يذهب إلى المسجد فيترك مشاغل الدنيا وضغوطها ويجلس ينتظر الصلاة في خشوع وسكينة، ثمّ يُصلي ويؤدي حركات تشابهها تدريبات الاسترخاء.
وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول لبلال “أرِحْنا بها يا بلالُ”، أخرجه الدارقطني عن بلال بن رباح بسند صحيح. وهي إشارة إلى أهمية الصلاة في بثّ الهدوء والسكينة في النفس. ويقول المولى – عز وجل -: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
التدريب على مواجهة الضغوط النفسية
ويزخر التاريخ الإسلامي بكتابات تشير إلى كيفية مواجهة الضغوط النفسية، ومنها ما ذهب إليه ابن حزم الأندلسي الذي أوصى في كتابه “الأخلاق والسير في مداواة النفوس” بأن نتوقّع ما لا نُحب حتى نتحمله عندما يحدث.
وإلى المعنى نفسه يذهب المرادي الحضرمي في كتابه “الإشارة في تدبير الإمارة”، حيث يرى أن الحزم هو النظر في الأمور قبل نزولها وتوقي المهالك قبل الوقوع فيها وتدبير الأمور على أحسن ما يكون من وجوهها.
ويذكر أبو زيد البلخي في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس” أنّ على الفرد ألا يُعوّد نفسه أن يضجر لكل صغير من الأمور التي يسمعها أو يبصرها ويسير الحوادث التي تقع عليه، فإذا عود نفسه احتمال الصغير وصبر النفس عليه صار ذلك عادة له في احتمال ما هو أجل شأنا وأعظم خطبا من المكاره التي ترد عليه.
عوامل نجاح مواجهة الضغوط النفسية
ونجاح عملية مواجهة الضغوط النفسية، يتوقف على عددٍ من المتغيّرات التي تُحدد مدى فعالية تلك المواجهة، منها:
أ- الإيمان بالله والتمسك بشرعه، والتدين الحقيقي قولا وعملا، وتطبيق ما جاء به الشرع الحكيم في جميع نواحي الحياة.
ب- السمات الشخصية مثل: المشاعر الوجدانية الإيجابية، والصلابة النفسية، والتفاؤل، وضبط النفس، وتقدير الذات، والوعي بالذات، وقوة الأنا والثقة بالنفس.
ج- المصادر الداخلية لدى الفرد مثل: الإحساس بالمعنى والقيمة والأهمية لحياة الفرد، والتحلي بروح الفكاهة والتمسك بالأمل.
د- المصادر الخارجية مثل: الوقت، والمال، والتعليم، والمهنة، والأطفال، والأسرة، والأصدقاء، ومستوى المعيشة المناسب، ومدى وجود ضغوط أخرى في الحياة.
هـ- طرق وأساليب مواجهة الضغوط، فالمواجهة المرتكزة على المشكلة أفضل من المواجهة المرتكزة على الانفعالات.
و- العوامل الوراثية، حيث تُؤثر على قدرة الفرد على مُواجهة أي ضُغوطٍ، لأن الجينات الوراثية تلعب دورًا مهمًا في صحة الفرد، فهناك أُسَر لديْها تاريخ وراثي لأمراض القلب، أو أمراض الجهاز الهضمي أو الاضطرابات النفسية وهو ما يُؤثر بالسلب على كفاءة بعض أعضائها.
ز- البيئة، وبخاصة التي تُقدم الدعم والمساندة، فإنها تزيد من قدرة الفرد على مقاومة أي ضُغوطٍ، وتدعم الصحة العامة للفرد وينطبق ذلك على كل من البيئتين الفيزيقية والاجتماعية، يقول صلى الله عليه وسلم: “مَثلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم، وتَعاطُفِهم، وتَراحُمِهم، مَثلُ الجَسدِ، إذا اشتَكى منه عُضوٌ تَداعى سائرُ الجَسدِ بالسَّهرِ والحُمّى”، (البخاري).
ح- الضغوط الشديدة، تؤدي إلى إحداث تغيرات فسيولوجية ضارة، بينما تؤدي الضغوط الخفيفة إلى مساعدة الجسم في تمثيل الهرمونات وتنظيم عملية إفرازها.
ط- مستوى الطاقة، فلكل إنسان مستوى أمثل من الطاقة البدنية والعقلية وهو محدد بالمستوى العام من الصحة والتغذية، والرعاية والشخصية ويحتاج إنفاق الطاقة لأن يكون منظما، وعندما يتعرض الفرد لأكثر من أزمة أو ضاغط في الوقت نفسه، فإن ذلك يؤدي إلى تشتيت الطاقة البدنية والعقلية.
المصادر
1- ابن حزم الأندلسي: الأخلاق والسير في مداواة النفوس. بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1980.
2- أبو حامد الغزالی: منهاج العابدين. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1989 .
3- أبو زيد البلخي: مصالح الأبدان والأنفس. الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2003
4- أبو علي التنوخي: الفرج بعد الشدة . بيروت: دار صادر للطباعة والنشر، 1978.
5-المرادي الحضرمي: الإشارة في تدبير الإمارة. بيروت، دار الكتب العلمية، 2003 .
6- جمعة سيد سيف: إدارة ضغوط العمل. القاهرة: دار ايتراك للطباعة والنشر، 2004 .
7- عبد الرحمن سليمان الطريري: الضغط النفسي، مفهومه، تشخيصه، طرق علاجه ومقاومته. الرياض: مكتبة الصفحات الذهبية، 1994 .
8- فخر الدين الرازی: عجائب القرآن. بيروت: دار الكتب العلمية، 1984 .