إنّ حاجة الأمة إلى العلماء فوق كل حاجة، لأنهم مصابيح الدُّجى وأعلام الهدى، فالناس لا يعرفون كيف يُعبد الله إلا بالعلماء، ومنهم المستشار سالم البهنساوي الذي ظلّ مُدافعًا عن دينه وأمته حتى آخر رمق في حياته، فكان رحيله جللًا عظيمًا، إلا أنها سنة الله في خلقه.
نشأة سالم البهنساوي وتعليمه
في قرية السعديين التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية في جمهورية مصر العربية، حيث أصالة أهل الريف وكرمهم وفطرتهم المُحبّة لدينها، وُلِد المستشار سالم علي إمام البهنساوي المعروف باسم سالم البهنساوي في عام 1932م / 1352هـ، في بيئة إسلامية نقية، حيث حرص والده منذ صغره على تحفيظه القرآن الكريم والسّير به نحو المسجد، ليتعلق به مدى حياته.
هذا الوسط الديني والأجواء العائلية الملتزمة ساعدته على الارتباط بالعمل الدعوي في مرحلة الطفولة.
ولقد نال سالم حب والده، وبخاصة مع حفظه الجيد للقرآن، فدفع به إلى التعليم، ليحصل على الابتدائية والبكالوريا، ولم يقف طموحه، وطموح والديه عند ذلك حيث كانا يحلمان برؤية ابنهما في مكانة عالية مثل الزعيم مصطفى كامل، فالتحق سالم بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) عام 1948م فحصل على درجة الليسانس فيها عام 1955م.
وما إن تخرّج في الكلية حتى جاء عمله في التأمينات الاجتماعية، ووصل مديرًا للتأمينات في المنصورة خلال فترة وجيزة حيث استمر فيها من 1956 حتى 1959، قبل أن ينتقل للعمل في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية عام 1959 واستمر هناك حتى 1964.
سالم البهنساوي بين الإخوان
كانت لزيارات الإمام البنا إلى جميع القرى المصرية ومدنها التي تجاوزت 4 آلاف قرية أثرًا عظيمًا في بلوغ دعوة الإخوان المسلمين لكل بيت فيها، حيث أصبح لها في معظم البيوت والعائلات أتباع ومحبّون.
لفت ذلك نظر الشاب طالب الثانوي سالم البهنساوي فأعجب بالبنا الداعية الشاب، وساعدته نشأته في أجواء عائلية ملتزمة على الارتباط بالعمل الدعوي باكرًا، حيث انضم لجماعة الإخوان المسلمين وقت أن كان طالبًا في المرحلة الثانوية، وتوطدت العلاقة في الجامعة حينما عادت الجماعة ورأى شبابها يتدرّبون على القتال من أجل معركة القنال عام 1951م، كما شاهد جنازة عُمر شاهين التي خرجت من جامعة القاهرة يُشيّعه آلاف الطلاب والأساتذة والقادة.
البهنساوي في قلب المحن
ما كان لمثل سالم البهنساوي أن يُترك دون اختبار من الله، ففي أوائل عام 1954م حدث احتكاك بين طلبة الإخوان المسلمين وطلبة هيئة التحرير التي شكّلها جمال عبدالناصر، وحرّك طلبة الإخوان مظاهرة كبيرة شارك فيها سالم.
وحينما نحّى مجلس قيادة الثورة، الرئيس محمد نجيب، غضب الشعب وعلى رأسهم الطلاب، فتحركت مظاهرات مارس 1954م واتجهت لقصر عابدين، فشارك فيها البهنساوي، وقُبِض عليه ضمن مجموعة من الطلبة إثر مشاركته في إضرابات طلاب الجامعة، اعتراضًا على قرار تنحية الرئيس نجيب، غير أنّه لم يستمر في السّجن كثيرًا، إذ أصدر نجيب قرارًا بالإفراج عن الطلبة.
ولم يعرف انتماء البهنساوي في محنة 1954م غير أنّ الأيام دارت وحلّ عام 1965م الذي أعلن فيه عبدالناصر من موسكو بالاتحاد السوفيتي اعتقال كل مَن سبق اعتقاله، فاعتُقل البهنساوي في جمادى الأولى 1385هـ/ سبتمبر 1965م، ووُجهت له تهمة إلقاء محاضرات عن الإسلام والشيوعية بالدقهلية بمؤسسة الثقافة العمالية وكذلك بالمعهد التجاري العالي بالمنصورة.
كان البهنساوي بعد تخرجه مُنافحًا عن دينه كاشفًا سوءة الشيوعية من خلال محاضرات يُلقيها بين الناس، حيث فضح الشيوعية ودعاويها الكاذبة وحمَل على مَن افتروا على الدعوة الإسلامية كذبًا وأفتوا بعدم وجود تعارض بين الإسلام والشيوعية، وهو الاتجاه الذي كان عبدالناصر يسعى للسير عليه فترة الستينيات، فغضب نظامه من محاضرات البهنساوي.
امتدت فترة اعتقاله إلى ست سنوات كاملة تنقّل فيها بين معتقلات السجن الحربي وأبي زعبل وليمان طرة، تعرّض فيها لشتى أنواع التعذيب الذي تحمّله صابرًا محتسبًا ولم يفرج عنه إلا في ربيع الأول 1391هـ/ مايو 1971 بعد تولّي أنور السادات الحكم في مصر.
ضد الشيوعية والتكفير
اتسم فكر سالم البهنساوي بالوسطية، وإقامة الحوار للوصول إلى نتيجة عملية، لذا حارب الشيوعية وكشف عوراتها.
وفي داخل السجن حينما انتشر فكر التكفير بسبب ما ناله المعتقلون من تعذيب تشيب من أجله الولدان، شارك البهنساوي المستشار حسن الهضيبي في كتابة أبحاث من كتاب “دعاة لا قضاة”، وفصَّل ما كتبه سيد قطب في كتاب “معالم في الطريق” وألَّف حول ذلك كتابه “أضواء على معالم في الطريق”.
في رحاب الكويت
وبعد أن خرج سالم البهنساوي من السجن عام 1971م، قرّر السفر إلى دولة الكويت وتم ذلك عام 1973م، فعمل بالهيئة العامة لشؤون القصر في وزارة العدل، وظلّ في منصبه هذا حتى بلوغه سن التقاعد عام 1992م، ثم اختير ليعمل مستشارًا لوكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت عام 2001م حتى وفاته، كما عمل متطوعًا كمستشار قانوني للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية.
وصاغ البهنساوي خلال فترة عمله الكثير من القوانين المدنية ذات الصبغة الإسلامية للهيئة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق الشريعة الإسلامية، وشارك في صياغة دساتير بعض الدول الإسلامية.
من مؤلفاته
أصدر سالم البهنساوي ما يربو على 26 كتابًا، وله العديد من المؤلفات والمقالات في الصحف والمجلات، منها:
- الوجيز في العبادات (1377 هـ/1957م).
- الإسلام والتأمينات الاجتماعية (1383 هـ/ 1963م).
- القوانين وعمال التراحيل (1384 هـ/ 1964م).
- الحكم وقضية تكفير المسلم (1397 هـ/ 1977).
- السُّنة المفترى عليها (1399 هـ /1979م).
- قوانين الأسرة بين عجز النساء وضعف العلماء (1400 هـ/ 1980م).
- مكانة المرأة بين الإسلام والقوانين العالمية (1401 هـ / 1981م).
- الغزو الفكري للتاريخ والسيرة (1404 هـ/ 1985م).
- أضواء على معالم على الطريق (1405 هـ/ 1985م).
- سيد قطب بين العاطفة والموضوعية (1406 هـ/ 1986 م).
- تهافت العلمانية في الصحافة العربية (1408 هـ/ 1988م).
- شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر (1409 هـ/ 1989م).
- الحقائق الغائبة بين الشيعة وأهل السنة (1409 هـ/ 1989م).
- الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديموقراطية (1411 هـ/ 1991م).
- الشريعة المفترى عليها (1415 هـ/ 1994م).
- فكر سيد قطب في ميزان الشرع (1420 هـ/ 1999م).
- السنة بين الوحي والعقل (1424 هـ/ 2003 م).
- حرية الرأي (1424 هـ/ 2003 م).
- قواعد التعامل مع غير المسلمين (1424 هـ /2003 م).
- كمال الشريعة وعجز القانون الوضعي (1424 هـ / 2004).
- التطرف والإرهاب في المنظور الإسلامي والدولي (1424 هـ/ 2004م).
- السلام الصهيوني والعجز العربي (1425 هـ/ 2004م).
- أدب الحوار والخلاف (1426 هـ/ 2005م).
- أركسة العلمانيين (1427 هـ/ 2006م).
- الإصلاح السياسي الخائر بين أهله (1427 هـ/2006م).
بين الحجة والبرهان
لقد تناول سالم البهنساوي نقد الفكر الشيوعي وأكد أنه يُناقض الإسلام تمامًا، وفي المقابل حذّر من خطر المُغالين في الدين، وما دام أكّد انحرافهم عن النهج القويم، ورفض تكفير المسلمين واستباحة دمائهم.
وخاض حوارًا مريرًا مع دعاة العلمانية، الذين اتخذوا من الطّعن في تصرفات بعض المنتمين للتيار الإسلامي ستارًا للطعن في الإسلام ذاته، سواء على هيئة مناظرات أو من خلال كتبه وكتاباته في الصحف والمجلات، أو حتى في الندوات التي شارك فيها، فانحاز للمرأة ودورها الذي حفظه الإسلام، كما أوضح الحقائق الغائبة في الخلاف بين الشيعة والسنة، موضحًا أن الحوار من أجل التقريب بين المذهبين لا يمكن أن يتم إلا بإيضاح هذه الحقائق التي يختلف فيها الفريقان، كما دعا لأدب الحوار والخلاف، ودافع عن السنة الشريفة، وأوضح حقيقة ما كتبه الشهيد سيد قطب.
صفاته بقلم ابنته
اتصف سالم البهنساوي بصفات المربي القويم التي يحتاجها كل داعية ومربٍّ يعمل بين الناس. فتقول ابنته (منال): “من صفاته حبه للإسلام، وحرصه على أداء الصلاة في المسجد، وبخاصة صلاة الفجر وعلى قراءة ورده يوميًّا من القرآن الكريم وعلى زيارة المقابر والدعاء للموتى، والبشاشة والابتسامة مهما كانت الظروف، والتفاؤل حيث كان يكثر من ذكر: تفاءلوا بالخير تجدوه. والبساطة والتواضع، وحب العلم والقراءة والحرص على اقتناء الكتب، وحب الأطفال والجلوس معهم والاستماع إليهم، والاهتمام والرعاية لأولاده وأهله، والنظام والترتيب، والاهتمام بالآخرين ومساعدتهم”.
أثره التربوي في الآخرين
ومن خلال كتاباته وعلاقاته ومعاملاته وعمله ترك سالم البهنساوي آثارًا تربوية في نفوس كل من تعامل معه أو عايشه.
فيقول الدكتور عادل الفلاح – وكيل وزارة الأوقاف الكويتية-: “لقد عايشت هذا الرجل فوجدت فيه مدرسة الوسطية، فهو من الرجال الذين اختصهم الله لدعوته الإسلامية المباركة وخدمة دينه وعباده فنذروا أنفسهم لله في همة عالية هدفهم دائمًا حماية حدود الله والدفاع عن حرماته”.
وكتب الدكتور توفيق الواعي عنه قائلا: “لم يكن الأستاذ المستشار البهنساوي رجلاً عاديًّا وإنما كان إنسانًا ذا طبع ملائكي النزعة إذا خالطته خالطت رجلًا صافيًّا كماء المزن، رقيقًا كأوراق الزهر، تلمس فيه الحنان والرقة والحب وتحس فيه الإخلاص والأبوة والود وإذا ناقشته وجدت علمًا غريزًا وأدبًا جمًّا”.
لقد تصدى الأستاذ المستشار البهنساوي – رحمة الله عليه- لأربع طبقات في الأمة:
الأولى: طبقة الموجّهين من الاستعمار من العلمانية اللادينية.
والثانية: طبقة المخدوعين الذين لا يملكون إلا الإذعان، وهي طبقة المتدينين من الجماهير.
والثالثة: طبقة تنتسب إلى الدعوة الإسلامية وتقتات منها، ولا مانع عندها أن تداهن وتناقض على حساب دينها.
أمّا الطبقة الرابعة: فهي طبقة المغالين والمنحرفين عن النهج القويم والصراط المستقيم الذين كفَّروا المجتمع وأوغلوا في دماء المسلمين.
ويقول عنه إبراهيم حسب الله – مدير الهيئة الخيرية الاسلامية- عن المستشار البهنساوي: “عرفته ساعيًا على الدوام في حل مشكلات الناس ليلًا نهارًا مهما كلفته من جهد ووقت ومال في كثير من الأحيان”.
وقال عنه الدكتور السيد نوح: “عشت معه، وعايشته سنين طويلة في لقاءات علمية ومحاورات في أسفار ورحلات، في تقديم مشورات، ورؤى مستقبلية في إصلاح ذات البيّن، في آداب اجتماعية وصلات أرحام في دفاع عن مظلومين وقضاء في خصومات في نصح وإرشاد، ودعوة إلى الله ومن خلال هذا التعايش، وتلك المعايشة، وجدتني أمام شخصية فريدة فذة، وهبها الله – عز وجل- خصائص ومزايا عملت على تنميتها وترسيخها حتى صارت جزءًا لا يتجزأ من كيانها.
ومن مواقفه التربوية التي يذكرها الدكتور حمزة زوبع: “دعوتُه للإفطار في أحد أيام رمضان قال لي: “تعرف يا أخ حمزة، أنا لا أستطيع أن أترك زوجتي وإن كنت أحب أن أُلبي دعوتك”..
تفهمتُ الظرفَ وقبلتُ العذرَ وقلتُ له على الهاتف: فكِّر ثانيةً إنَّ حضورك يُشرفني وأهل بيتي”..
بعد ساعة أو أقل رن الهاتف:
– من معي؟
– أنا سالم البهنساوي..
– يا مرحبًا أهلاً وسهلاً..
– اسمع يا أخ حمزة، أنا تحدثتُ مع زوجتي وقالت لي إنها ليس لديها مانع أن أتركها إكرامًا لدعوتك.
الله الله.. هيأت أهل بيتي وبشرت أبنائي.. ها هو علم من أعلام الدعوة والعلم والمعرفة سيشرفني وسيراه أبنائي في بيتي.
جاءني ويداه لا تخلوان من هديةٍ للأولاد.. تناولنا طعامَ الإفطار مع زُمرةٍ من أهلِ العلم والفضل والمعرفة ودار كما هي العادة بيننا حوار.
وفاته
لما دُعي المستشار سالم البهنساوي إلى مؤتمرٍ عن “الوسطية في الإسلام” نظمته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت في باكو عاصمة أذربيجان، لبى مسرعا، وسافر مشاركا وصادحا بكلمة الحق، فكان أن اختاره الله واصطفاه في هذه اللحظات.
لقد كان البهنساوي من المحافظين على صلاة الفجر، فما إن استيقظ لصلاة الفجر في الفندق وصلى فجر الجمعة جماعة مع الدكتور عادل الفلاح – وكيل وزارة الأوقاف الكويتية- وصحبه الكرام، حتى صعدت روحه إلى ربها وذلك يوم 3 صفر 1427هـ الموافق 3 مارس 2006م، عن عمر ناهز 74 عامًا، وحمل جثمانه إلى الكويت حيث دفن فيها، ونعاه الأستاذ عاكف المرشد العام – آنذاك- وجموع كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها.
المصادر والمراجع:
- حسين الجرادي: قراءة في فكر علماء الوسطية، المستشار البهنساوي أنموذجا، مجلة الوعي الإسلامي، العدد، 523، ربيع الأول 1430هـ/ مارس 2009، صـ84- 85.
- عبدالله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار البشير، طنطا، مصر، 2006م.
- سالم البهنساوي رجل الفكر والقانون: ويكيبيديا الإخوان المسلمون، https://bit.ly/3owPeTg
- المرشد العام ينعي فقيد الدعوة المستشار سالم البهنساوي: 3 مارس 2006، https://bit.ly/3wXw9NN
- حمزة زوبع: سلام الله عليك سيدي العالم الجليل سالم البهنساوي، 6 مارس 2006، https://bit.ly/3FqxxM5