لقد نهى الإسلام عن سوء الظن وحرّمه مثل سوء القول، لأنه يُذهِب العلاقات بين الناس ويُقطّع أواصر المَحبّة بينهم، ويُفشي السّوء والبغضاء، بل إن معظم مشكلات المجتمع تنحصر في هذه الآفة التي لا تراعي ظروف الناس المدفونة في أعماقهم، فهي دائمًا تجعل صاحبها بلا عقل ولا منطق، ولا قلب سليم.
وأمر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين باجتناب كثير من الظن لآثاره السلبية؛ التي قد تعزل الإنسان عن مُجتمعه، وتجعله دائمًا خائفًا ومتوجسًا، ممّا قد يؤذي شخصيّته مع مرور الأيام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12].
مفهوم سوء الظن وأقسامه
إنّ سوء الظن له تعريفات عديدة، ذكر جانب منها الإمام ابن القيم فقال: إنه هو امتلاء القلب بالظّنون السّيئة بالنّاس حتى يطفح على اللسان والجوارح، وعرّفه الإمام ابن كثير بقوله: هو التّهمة والتخوّن للأهل والأقارب والنّاس في غير مَحلِّه(1).
وأصل مادة سوء في اللغة يدلُّ القبح، يقال: ساء الشيء: إذا قَبُح. والسُّوء: الاسم الجامع للآفات والداء، والسُّوءُ- أيضًا- بمعنى الفُجور والمنكر، ويقال: ساءه يسوءه سوءًا وسواء: فعل به ما يكره. وظنَّ الشَّيء ظنًّا: علمه بغير يقين، والظِّنة: التهمة. ومصدره الظنة، والجمع الظنون(2).
ودعا الإسلام إلى الأخلاق الفاضلة، والآداب السامية، ونهى وزجر عن الأخلاق والأفعال الساقطة ومنها الظن السيئ الذي هو اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير، والذي لا ينتج عنه أي خير سواء على الجانب الفردي أو الجماعي.
ولخطورة هذه الصفة ولعظم مفسدتها، وسوء أثرها ودوامه، ولأن وجودها يقضي على روح الألفة والمحبة بين الناس، فقد قسمها العلماء حتى يعمل المسلم جاهدًا على التخلص منها والتحلي بحسن الظن، ومن هذه الأقسام:
- سُوء الظّن بالله تعالى: وهو أن يظن الإنسان بالله ظنًا لا يليق بمقامه تعالى؛ وسوء أدب مع الخالق سبحانه، وعدم الرضا بقضاء الله وقدره، أو أن يظن المسلم في قلبه أن الله لن يغفر له ولن يصفح عنه، وهو أكبر ذنبًا من اليأس والقنوط من رحمة الله؛ لأنّه جمع بين اليأس والقنوط والتَعَدي على كمال الله للظنّ به ظنًا لا يليق بكرمه ورحمته.
- سُوء الظّن بالمسلمين: حيث يظن المسلم سوءًا بكل مَن يحيطون به سواء كانوا من ذويه أو أصدقاءه أو الناس عمومًا دون بيّنة أو برهان أو دليل واضح، إنما حكم بمجرد تهيؤات وخيالات، وهو ما يحمل مسيء الظن على احتقار من أساء الظن به، وعلى عدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان عليه.
- سُوء الظّن الجائز: ويشمل بمن اشتهر بين الناس بالمجاهرة بالمعاصي، وكذلك بالكافر، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها؛ لأنه قد يكون متجسسًا بهذا العمل.
- سُوء الظّن المستحب: وهو ما كان بين الإنسان وعدوه ويخاف منه أذى أو مكروه فيجب عليه ألا يأمنه ويظن به ويتوخى الحذر منه لئلا يصادفه على غرة بمكره فيهلكه.
- سُوء الظّن الواجب: وهو لتحقيق مصلحة شرعية، كجرح الشهود ورواة الحديث(3).
لماذا يُحرم الإسلام سوء الظن؟
حسن الظن عبادة من العبادات الحسنة، كما أن سوء الظن معصية من معاصي الله تعالى، ولقد حرّمه الإسلام في شرائعه، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12].
وقال- عز وجل- {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ}[فصلت:22].
وقد شدد على حرمته النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، فقال: “إياكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث” (البخاري ومسلم)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم” (أبو داود وأحمد والطبراني).
وقصته مع السيدة صفية زوجته، حينما مرّ به اثنان من الصحابة فأسرعا فقال لهما على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال: شيئًا” (البخاري ومسلم).
وسبب تحريم الإسلام لسُوءِ الظّن أنه باب واسع للخلافات ونشر الشائعات، وتهديد لكينونة المجتمع، يقول الإمام علي- رضي الله عنه-: “لا إيمان مع سُوءِ ظَنّ”، وقال- أيضًا-: “سُوءِ الظّن يُفسد الأمور ويبعث على الشرور”.
وجاء من أسباب التحريم- أيضًا- أن سوء الظن إذا انتشر في أي مجتمع، وُجِدَت الفتنة، والفتنة أشد وأكبر من القتل، وأدى- أيضًا- إلى التفكك الأسرى، والشك في مؤسسات المجتمع، والزملاء في العمل، ما من شأنه توقف عجلة الإنتاج، ووجود مسببات التدهور وعدم التقدم في كل المجالات، وزيادة معدلات الجرائم بمختلف صورها، والصراع الاجتماعي، الذي إذا وُجد في أي أمة دمرها(4).
آثار الظن السيئ
وآثار سوء الظن السلبية عديدة على الفرد والمجتمع، فهي تجعل الجميع في عزلة، حتى يصل الحال إن ابتسم الأخ لأخيه ظن أنه ابتسم لا محبة له ولكن طمعًا في الحصول على شيء ما، وإن نصحه في أمر ما ظنّ أن النصيحة هي للإساءة أو لتعكير مزاجه أو للتقليل من شأنه.
وسُوءُ الظّن يؤدي إلى انعدام الثقة بين الناس، فالأصل عند مَن يُسئ الظن هو إساءة الظن بجميع الناس من حوله دون استثناء بمَن فيهم أقرب الناس إليه، ما يُؤدي إلى نفورهم منه وتركه وحيدًا هو وأفكاره وشكوكه السّيئة.
لذا تعد إساءة الظن من أسوأ الأمراض الاجتماعية التي تُؤدي بالمجتمعات الإنسانية إلى التهلكة وتحرمها من التماسك والتلاحم والتراحم والمحبة بين أفرادها.
والظن السيئ سبب للوقوع في الشرك والبدعة والضلال، يقول ابن القيم: “الشرك والتعطيل مبنيان على سُوء الظّن بالله تعالى”.
بل إنه يُورّث الإنسان الأخلاق السّيئة كالجُبن والبُخل والشح والحقد والحسد والتباغض، وهو ما عبّر عنه ابن عباس بقوله: “الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سُوء الظّن بالله عز وجل”.
وتُؤدي هذه الآفة السيئة إلى تتبع عورات المسلمين: يقول الغزالي: “من ثمرات سُوء الظّن التجسس، فإنَّ القلب لا يقنع بالظنِّ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضًا منهي عنه”.
ويترتب عليه الكثير من الأمور السيئة كالمشكلات العائلية، وإضعاف الثقة بين المؤمنين، وهو من مداخل الشيطان الموقعة في كبائر الذنوب، وسبب في مرض القلب، وعلامة على خُبث الباطن ومدعاة لسوء ظن الناس به(5).
علاج آفة الظن السيئ
ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء يتناسب مع حقيقته وطبيعته، لذا جاء التحذير من سوء الظن وما يترتب عليه، كما تتنوع الوسائل التربوية لعلاج هذه الآفة على النحو التالي:
- حُسن الاستعانة بالله والاستعاذة به والتوقف عن الاسترسال في الظنون، مع معرفة أسماء الله وصفاته حتى يتجنب العبد الظن السيئ.
- اتهام النفس بالتقصير والعمل على إصلاحها وتنقية القلب وتزكية النفس وشغلها بما هو نافع لها ولغيرها.
- عدم تتبع عورات الناس ولا إساءة الظن بهم أو الخوف منهم أو التربص بأفعالهم حتى لا يُصاب المرء بالأمراض النفسية التي تزيد من عزلته أو نفور الناس منه.
- تنشئة الأبناء على حُسن الظن، ووجود القدوة الحسنة في البيت وفي المدرسة التي تساعدهم على تمييز الخبيث من الطيب.
- معرفة وإيضاح أهمية معنى حُسن الظن للأبناء.
- العناية بالمواقف التربوية العملية التي تُبيّن معنى حسن الظن بوضوح.
- إدراك أن جميع الأمور بيد الله سبحانه، وليس لأحد من البشر أي سلطان، حتى يصبح حسن الظن بالله جزءًا لا يتجزأ من حياتنا وطريقة معيشتنا.
- اليقين بأن السّرائر لا يعلمها إلا الله- سبحانه وتعالى- وهو ما يجعلنا لا نسيء الظن بأحد إذا أيقنا هذه الحقيقة.
- عدم مصاحبة من ابتلي بإساءة الظن، والبعد عن مواطن التهم والريب، يقول أبو حاتم البستي: الواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب لئلا يكون مريبًا(6).
- التثبت والتبيّن من الأمور، وعدم الاستعجال في الحكم عليها.
- الإقبال على عيوب النفس، والاشتغال بتقويمها وإصلاحها، فإن من عرف عيوب نفسه تواضع لله وللناس، وظن النقص بنفسه وليس بالناس.
- استحضار الآيات والأحاديث التي سبق ذكرها، والتي تُبيّن خطورة هذا الأمر والعقاب الشديد عليه.
- النظر في جوانب الخير الموجودة عند الناس، فالغالب أن الإنسان فيه من الخير كما فيه من السوء والشر، فلا يجوز إلغاء الحسنات التي قد تكون أكثر وأعظم من السيئات التي في ذلك الشخص.
- اختيار الأصدقاء الصالحين، الذين يعينون النّفس على طاعة الله واجتناب الظن السيئ.
- سلامة الصدر من البغض، والكراهية، والغلّ، والحسد، ويكون ذلك بالإقبال على قراءة القرآن الكريم، وتدبّره، والدعاء بسلامة القلب من الأحقاد والضغائن، وإفشاء السلام بين الناس، والابتعاد عن الوقوع في الذنوب والمعاصي.
هكذا، لا ينبغي للمسلم أن يقع في معصية سوء الظن بالناس، وألا يلتفت كثيرًا إلى أفعال الغير، ولا يراقبهم، بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلحَ شأنها، ويُقوِّمَ خطأها، ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية، فإذا شغل نفسه بذلك، لم يجد وقتًا ولا فكرًا يشغله في الناس وظن السوء بهم.
المصادر والمراجع:
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، طـ1، جـ13، مؤسسة قرطبة، الجيزة، مصر، 2000م، صـ 155.
- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1997، جـ1، صـ 95.
- الدرر السنية: أقسام سوء الظن وحُكم كلِّ قسم منها.
- خالد أحمد المطعني: سـوء الظـن .. «فتنـــة» تهــدد المجتمـــع، صحيفة الأهرام، العدد 47457، السنة 141، الجمعة 11 من صفر 1438 هــ 11 نوفمبر 2016م.
- الدكتور سلام عمر: سوء الظن وأثره على العلاقات الإنسانية، 24 يوليو 2018م.