لا يشك عاقل بأن محاربة الباطل والتصدي له صفة نبيلة لا يُوفّق لها إلا نوادر الرجال العظماء، ومن هؤلاء الأستاذ عبد الحكيم عابدين الذي كان من الذين صهروا ذواتهم في خدمة أمتهم، وجعلوا من أنفسهم جسورًا ليمر من فوقها الناس نحو مراقي الفلاح.
وقد بلغ الأستاذ عبد الحكيم منزلة المصلحين الذي حرصوا على علاج الأمراض النفسية المهلكة التي ظهرت في الأمة، وذلك إيمانًا بأنّ هلاك النّفس فيه هلاك الجسد، بل كان من الذين أحبّوا دينهم وعملوا له مُنذ الصغر، وابتُلي في سبيل ذلك بالاعتقال والهجرة خارج البلاد.
نشأة عبد الحكيم عابدين
في قرية مطرطارس بمركز سنورس في محافظة الفيوم، وُلد عبد الحكيم عابدين سنة 1396هـ 1914م، حيث ذكر ذلك في مذكراته بقوله: “كان ذلك في قريتي التي نشأت فيها وهي قرية مطرطارس من أعمال مركز سنورس أي قائمية سنورس بتعبير هذه البلاد من محافظة الفيوم في الوجه القبلي من أرض مصر”.
وحفظ القرآن الكريم وهو صغير، وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي التحق بكلية الآداب جامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليًّا)، وتخصص بعدها في دراسة الأدب العربي، حيث كان يجيد الشعر وترك ديوانا سُمي بـ”البواكير”.
حصل على ليسانس اللغة العربية وآدابها عام 1937م، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1954، وعمل بإدارة جامعة القاهرة بعد تخرجه (أمينًا لمكتبة الجامعة)، وبعد أحداث 1954م اختاره الحاج أمين الحسيني (مفتي فلسطين) ليكون مستشارًا للهيئة العربية العليا في بيروت تحت رئاسته، كما عمل مستشارًا لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة.
وكان والده ممّن سمع عن دعوة الإخوان المسلمين وحسن البنا، فكان يصحب ابنه عبد الحكيم لسماع دعاة الإخوان الذين يفدون للفيوم. وحينما التحق بكلية الآداب كان فيها الأستاذ محمد عبدالحميد أحمد (أحد الطلاب المؤسسين لقسم الطلبة في جماعة الإخوان) فتعرف إليه الذي بدوره اصطحبه لمقابلة الإمام البنا وتعلق به منذ اللحظة الأولى.
ونشط عبد الحكيم في نشر مفاهيم الدعوة الإسلامية وسط طلاب كلية الآداب جامعة القاهرة، حتى استطاع أن ينتزع من عميدها مكانًا وجعله مصلى للكلية ورفع فيه الآذان.
ظل “عابدين” من عام 1954م يعمل من أجل دينه سواء في اللجنة العليا لنصرة فلسطين أو رابطة العالم الإسلامي، وظل يتنقل من بلد إلى بلد، وبخاصة سورية ولبنان والسعودية والأردن والعراق وغيرها، ويبذل قصارى جهده لنصرة دين الله وإعزاز كلمة الإسلام وجمع الدعاة المسلمين على كلمة سواء، حتى مات عبد الناصر وأسقط عنه الأحكام فعاد لمصر عام 1975م حيث عمل مع الأستاذ عمر التلمساني في نشر الدعوة ولمّ شمل الجماعة حتى توفاه الله عام 1977م.
عبد الحكيم عابدين شاعرا
تفتحت مواهب عبد الحكيم عابدين الشعرية مُنذ أن كان طالبًا، وزادت معه حينما كان في الجامعة، ولفتت الأنظار إليه، فكان شاعرًا موهوبًا، متأجج الشعور والأحاسيس، وكانت تلك الموهبة طريقه إلى معرفة كبار أساتذته، ومن بينهم الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب- حينئذ-، وكان يأنس بالجلوس معه.
يذكر ذلك الأستاذ محمود عبد الحليم بقوله: “وكان مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وعميد كلية الآداب طه حسين، وكلاهما يأنس للطالب عبدالحكيم عَابدِين بحكم نضجه الأدبي وسرعة بديهته ونزعته الشعرية الأصيلة، حتى إن طه حسين كان يطارحه الشعر”، ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة من أهمها:
- موهبته الفطرية، حيث كان شاعرًا مطبوعًا، وخطيبًا مفوهًا ذا إلقاء آسر جذاب.
- قوة شخصيته وفاعليته، وقدرته على الاندماج والتكيف والإدارة.
ومن قصائدة التي ما زال شباب الحركة الإسلامية يتغنون بها قصيدة (نشيد الكتائب) والتي صدرها بقوله:
هو الحق يحشد أجناده ** ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الكتائب آساده ** ودكوا به دولة الباطل
تآخت على الله أرواحنا ** إخاء يروع بناء الزمن
وله ديوان “البواكير”، نشرته دار الصاوي بشارع الأزهر – القاهرة 1937 (أهدى الديوان إلى الشيخ حسن البنا)، ونُشرت له قصائد في الصحف المصرية، منها: “ذكرى الهجرة” – مجلة الرسالة – عدد المحرم – 1355هـ / 1936م، و”فلنفهم الإسلام” – جريدة “الإخوان المسلمون” – 27/5/1935، فضلاً عن قصائد نُشرت خارج مصر في صحف عربية مختلفة.
وديوان “البواكير” الذى نظّمه الشاعر، تدور قصائده على محاور رئيسية عدة هي- كما رتبت في الديوان-:
1- تحت الراية الإسلامية (3-61).
2- بين يدى الوطن (65-103).
3- في الحرم الجامعي (106-155).
4- حديث الوجدان (غزل عفيف) (156-176).
5- في الميادين المختلفة (178-186).
رؤية تربوية ودعوية
وكان للأستاذ عبد الحكيم عابدين رؤية تربوية تلخّصت في النقاط التالية:
- الاهتمام بالمناسبات التاريخية الإسلامية كالهجرة والإسراء في تربية النشء.
- الدعوة إلى فهم الإسلام حتى يكون اعتناقه على أساس سليم.
- توضيح رسالة المسلم وأبعادها، والغاية التي يجب أن يحرص على تحقيقها.
- الإشادة بالإخوان المسلمين وجهادهم، وجهودهم للنهوض بالشباب والمجتمع، والإشادة بجهاد فلسطين، ونهوض الحجاز.
- عمل أناشيد إسلامية للشباب بخاصة أناشيد الجهاد، والدعوة إلى الحق والقوة والحرية.
- تمجيد الإسلام كشفاء لأمراض المجتمع، وحل لمشكلاته، وسبيل إلى إنقاذ البشرية من السقوط والضياع والانهيار.
- تمجيد القيم الإسلامية مثل الأخوة والحب والوحدة والاعتصام بكتاب الله.
- الاهتمام بعوامل النصر والتقدم والنهوض بالإسلام وشعوبه.
أما جهوده الدعوية، فقد كان للصفات التي اتّصف بها “عابدين” السبب في اختياره سكرتيرًا عامًّا لجماعة الإخوان المسلمين، حيث أُوكِلت له الكثير من المهام في المكتب، بالإضافة إلى التواصل مع الشعب.
وارتبط “عابدين” بصداقاتٍ كثيرةٍ مع أصحاب الشّأن في مصر من الكبار والأطباء وأساتذة الجامعات، وعن طريقه عرف هؤلاء دعوة الإخوان المسلمين، وكان “عابدين” لبقًا في حديثه يأخذ بالألباب، جيدًا في عرضه يُقنع المخالف والمجادل.
وكان يحب الأستاذ البنا حبًا شديدًا ويؤثره على نفسه في كثير من الأمور، ما دعاه إلى أن يرتبط معه بمصاهرة، حيث تزوج من أخته فاطمة التي وُلدت في 3 فبراير عام 1911م الموافق شهر صفر 1329هـ وأنجب منها وَلَده الوحيد المستشار هشام عبدالحكيم.
وقد كان الأستاذ عبد الحكيم سفيرًا للدعوة خارج مصر، ففي صيف 1944م انتدب قسم الاتصال بالعالم الإسلامي الأخوين الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي والأستاذ عبد الحكيم لزيارة الأقطار العربية الشقيقة بالشام والعراق، وقد كان لهذه الزيارات والوفود المتبادلة بين مصر وبلاد الشام الأثر الكبير في توحيد العمل بينهما بعد ذلك.
وفي صيف 1945 زار الأستاذ عبد الحكيم الأردن، وتقابل مع الأمير عبد الله الذي قابله بحفاوة وتقدير، وطلب من عابدين نقل تحياته إلى الأستاذ البنا، وكلّفه أن يدعو المرشد إلى زيارة الأردن، وأن يبلغه أن الأردن بيته ومقره، وأن الملك مشتاق لرؤيته، وألا تنقطع زيارات الإخوان.
مِحَن على الطريق
كان الأستاذ عبد الحكيم عابدين ذا حركة دؤوبة حتى إنه كشف مخطط محاولة اغتيال الأستاذ حسن البنا على يد الإنجليز عام 1941م ما عرّضه للاعتقال بصحبة الأستاذ البنا والأستاذ السكري، فبقى في سجن الأجانب شهرين حتى أفرج عنه في ديسمبر من العام نفسه.
وقد كان “عابدين”- بحكم منصبه- قريبًا من الإمام البنا وما إن صدر قرار بحل الجماعة حتى تقدم والإمام البنا بدعوى لإلغاء القرار العسكري بحل الجماعة، غير أن “عابدين” اعتقل حتى أفرج عنه مع بقية إخوانه عام 1951م.
وبعدما أفرج عن الإخوان سعوا إلى إلغاء القرار العسكري بحل الجماعة واختيار مَن يتولى منصب المرشد خلفًا للأستاذ البنا، وبعدما استشهد الإمام البنا كانت الأنظار تتجه إلى واحد من أربعة لخلافته في منصب المرشد العام، وهم أحمد الباقوري وصالح عشماوي وعَبْد الحَكِيم عَابدِين وعبدالرحمن البنا.
وحينما عُرض الأمر على “عابدين” كونه السكرتير العام للجماعة، رفض قبول المنصب واعتبر نفسه أقل منه، وحينما لم يُحسم الأمر جرى التوافق على اختيار المستشار حسن الهضيبي فكان صالحًا جنديًا في خدمة دعوته.
ثم اختير المستشار الهضيبي مرشدًا، وسلم عابدين نفسه كجندي للدعوة وظل مرابطًا مع إخوانه حيث شارك في اللقاءات مع الضباط للتجهيز للثورة، كما تعرض للمحنة مع إخوانه في بداية عام 1954م حتى أفرج عنه في مارس 1954.
وحينما سافر المرشد العام في زيارة إلى سوريا والأردن صاحبه الأستاذ عابدين وبعدما تمت الزيارة رأى بعض الإخوة المصاحبين أن الوضع في مصر متأزم فطلبوا من الهضيبي البقاء وعدم العودة فرفض إلا أن يشارك إخوانه المحنة وعاد وبقى عابدين والوليلي، حيث أصدر عبد الناصر فيما بعد قرارًا بإسقاط الجنسية المصرية عنهما، ولم يُلغَ القرار إلا في عهد السادات.
يقول العقيل: ولقد صحبت أستاذنا الشيخ الندوي سنة 1951م حين زار مصر، بزيارة الأستاذ عَبد الحَكِيم عَابدِين أكثر من مرة في منزله وفي دور الإخوان، وكان الشيخ الندوي معجبًا غاية الإعجاب بالأستاذ عابدين وبذكائه ونباهته وقوة حجته وبلاغة تعبيره وجزالة ألفاظه وعمق معانيه وسلاسة أحاديثه وعذوبة كلامه وحضور بديهته.
وكان الأستاذ عابدين، صاحب سجية أدبية، وسليقة عربية، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة، وكان له دور بارز منذ كان طالبًا في دعم المجاهدين بفلسطين، فقد قام مع مجموعة من إخوانه الشباب بالخطب في مساجد القاهرة والأقاليم، لحثِّ الناس على التبرع لإخوانهم في فلسطين، لأنهم يعانون من ظلم المستعمرين الإنجليز واليهود الغاصبين.
وكانت خطبه في مساجد مصر، وبخاصة في مسجد البدوي بطنطا، ذات أثر كبير في نفوس الجماهير، وهي التي أشار إليها أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي في مقاله الرائع بمجلة (الرسالة) بعنوان: (قصة الأيدي المتوضئة) بقوله: “… ولما قضيت الصلاة ماج الناس، إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم؛ ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغيُّر أحوال أهلها، ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر والمُخِفَّ إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم”.
المصادر والمراجع:
1. مذكرات عبد الحكيم عابدين: دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، مصر، طـ1، 1998.
2. عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة، دار البشير طنطا مصر، 2006.
3. محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ دار الدعوة الإسكندرية مصر، 1999.
4. جابر قميحة: من شعراء الإخوان المسلمين، موقع جابر قميحة.
5. جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الجزء الخامس، 2008.
6. ريتشارد ميتشل: الإخوان المسلمون (ترجمة عبدالسلام رضوان) – مكتبة مدبولي – القاهرة 1985.
7. عبد الله العقيل: الداعية الأديب عبد الحكيـــم عابديــــن، 20 يناير 2020.
8. مصطفى صادق الرافعي: من وحي القلم، دار القلم للنشر والتوزيع، بيروت، 2019.