إنّ دراسة مقاصد الشريعة الإسلامية من الأمور المهمة التي تساعد المجتهد على تحقيق الوسطية في كل ما شرعه الله- سبحانه وتعالى- لعباده المسلمين من أحكام وقواعد ونظم لإقامة الحياة العادلة وتصريف مصالح الناس وأمنهم، سيما أن المقاصد والغايات التي جاءت من أجلها الشريعة، ذات طابع حضاري وبعد إنساني مشترك.
ولا شكّ أنّ الغلو في الدين مذموم بالعموم، سواء بالإفراط أو التفريط، والمقاصد الشّرعية من جملة ما حَصَلَ فيه الغلو في الاتجاهين، فأهملها قوم ولم يعيروها حقها من النظر والاعتبار الشرعي، فوقفوا عند ظواهر النصوص وجعلوها عبارات جامدة لا روح لها، وغلا فيها قوم فحمَّلوها ما لا تحتمل. وهو ما يجب الوقوف عليه ومعرفته سواء للكبار أو الصغار حتى يصح القصد والعمل، لا توصف الأمة بالإرهاب والتشدد.
مفهوم مقاصد الشريعة
خَلَقَ الله- عز وجل- الإنسان وجعل من خلقه حِكَمًا وغايات تمثلت في عبادته على الوجه الصحيح وتعمير الأرض وإصلاحها، فجاء علم مقاصد الشريعة لحماية الكليّات الخمس التي تخص الإنسان وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال.
والمقاصد جمع مقصد، وهي مشتقة من الفعل قصد، وكلمة المقاصد عند أهل اللغة العربية بمعانٍ عديدةٍ، من هذه المعاني:
1- استقامة الطريق: ومنه قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل: 9].
2- العدل والوسط بين الطرفين: وهو ما بين الإفراط والتفريط، والعدل والجَور، ومنه قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [فاطر: 32].
3- الاعتماد والاعتزام وطلب الشيء وإثباته: تقول: “قصدت الشيء، وله، وإليه قصدًا”.
ولم يضع قدماء الأصوليين تعريفًا لمعنى المقاصد لكنها جاءت حول معنى رفع الحرج والضيق، ومن ثم فتعريفها اصطلاحًا: هي إرادة حصول المراد من تشريع الأحكام.
وذكر ابن عاشور مقاصد التشريع العامة، بكونها المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها(1).
حاجتنا إلى علم مقاصد الشريعة
المقاصد بريد الاجتهاد، ومفتاح العلم المؤصل، وبوصلة التطور العلمي والثقافي للأمة، لذا فإن سلامة الأمة وصحتها الحضارية والفكرية تقوى حين تحسن توظيف المقاصد في شؤونها الحياتية، وتستفيد من نتائج البحوث المقررة والمتكررة في الجامعات عن جزئيات المواضيع المتعلقة بالمقاصد(2).
ودراسة مقاصد الشريعة وتطبيقها على أرض الواقع لها فوائد وأهمية كبيرة؛ حيث إنها روح الشريعة، وأهدافها ومقاصدها وغاياتها، وهو المعنى الذي ذكره الإمام الجويني في البرهان بقوله: “من لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة، وهي قبلة المجتهدين، من توجَّه إليها من أي جهة، أصاب الحق دائمًا”(3).
ومن أهم فوائد دراسة وتطبيق مقاصد الشريعة:
- إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية، العامة والخاصة، وفي شتى مجالات الحياة، وفي مختلف أبواب الشريعة.
- تمكين الفقيه من الاستنباط في ضوء المقصد الذي سيعينه على فهم الحكم وتحديده وتطبيقه.
- إثراء المباحث الأصولية ذات الصلة بالمقاصد، على نحو المصالح والقياس والعرف والقواعد، والذرائع وغيرها.
- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي، والتعصب المذهبي، وذلك باعتماد علم المقاصد في عملية بناء الحكم، وتنسيق الآراء المختلفة، ودرء التعارض بينها.
- التوفيق بين خاصتي الأخذ بظاهر النص، والالتفات إلى روحه ومدلوله، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض.
- عون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمها(4).
عواقب الغلو في فهم الشريعة
الغلو مرض قديم عانت منه كثير من الأمم، وتناقله أهل الأهواء جيلًا بعد جيل، وقد حذر الله منه فقال سبحانه في أكثر من موضع: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[النساء:171]، وقال تعالى:{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة: 77]. فكان سبب انحراف الأمم السابقة عن حقيقة دينهم غلوهم فيه وتشددهم في الأمر حتى حملوا أنفسهم ما لا يطيقون.
وهذه الأمة ليست بمنأًى عن الغلو، ولذا قصّ الله- عز وجل- علينا هذه الأخبار؛ لكي نحذر أن نسلك مسلكهم. فالغلو مذموم في الأقوال والأعمال، ومذموم في الموالاة والمعاداة، ومذموم في العبادات والعادات. فغلوك في عبادتك مذموم؛ لأن الواجب عليك أن تكون عبادتك- مع كونها خالصة لله- على وَفق ما شرعه الله على لسان النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-.
والأمة التي تكلف نفسها فوق طاقتها في دينها لا تصل لغايتها بل تضل وتنحرف عن حقيقة العبادة والدين، كما أن من عواقبها إثارة الفتن وتأجيج الصراعات، وكراهية الناس للدين ونفورهم منه، بل والفتور والانقطاع عن العبادة، وسبب في الفرقة والتحزب، وسبب في غياب الأمن، وحلول المحن(5).
أسباب الغلو في فهم مقاصد الدين
وتتعدد أسباب الغلو في فهم مقاصد الشريعة غير أن الجهل واتباع الهوى يعدان من أهم الأسباب التي قد تؤدي للشطط والتطرف في الدين، وأبرزها الجهل بكتاب الله تعالى، والجهل بالسنة النبوية وتحميلها على وجه غير ما تريده، والجهل بمنهج السلف.
وأما عن أسباب الغلو في المقاصد فتتمثل كما ذكرها جمال الفرا:
- السبب الأول: سلوك سُبُل غير علمية بدعوى تطوير النظر في مقاصد الشريعة: ولهذا الأمر تأثير من حيث المضمون يتمثل في تأويل المقاصد، والشطط في فهمها، والتعدّي على ثوابت شرعية لا تحتمل هذا التأويل.
كما أن له أثرًا سلبيا في زيادة في المقاصد الضرورية دون ضوابط؛ فقد مشى عامّة العلماء المتقدّمين على القول بمقاصد خمسة ضرورية وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، بينما يرى البعض أنّه لا يمكن ادّعاء الحصر في مقاصد الشريعة، فالمقاصد كالمسائل لا يمكن حصرها، وأضافوا عناوين مفتوحة وجعلوها مقاصد مثل: السلام العالمي، والتقدّم الاقتصادي، والبحث العلمي وغيرها.
وهذا الغلو في الزيادة على الكليات الخمس إلى غيرها دون اعتبار الضوابط الشرعية أدّى إلى لون من الانحراف الفكري استغلّه أصحاب الهوى وأتباع المذاهب الحداثية لمحاولة التغيير في مسلّمات الشرع.
- السبب الثاني: الخلل في فهم الغائية في مقاصد الشريعة: فالشريعة مغيّاة بمعنى أنَّ أحكامها لها علل وليست عبثًا، وهذا مقتضى الحكمة الإلهية.
- السبب الثالث: الغلو في المقاصد تحت تأثير ضغط الواقع: فوقوع الشرّ وعموم البلوى به يؤثر على الدعوة إلى مدافعته، من خلال إدراج صور من المقاصد لا تندرج تحته أصلاً.
- السبب الرابع: الغلوّ في اعتبار مراتب مقاصد الشريعة× كتقديم المقاصد الجزئية على المقاصد الكلّية.
- السبب الخامس: وَهْمُ مواكبة الحداثة والميل إلى تقديم العقل: فمن الغلوّ ما زعمه الحداثيون أنّ الحجاب لم يعُد ملائمًا للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحرّرها واقتحامها لكافّة مجالات الحياة العامّة(6).
ﺩﻭﺭ ﻣﻘﺎﺻد الدين في تحقيق ﺍﻷﻣن ﺍﻟﻔﻜرﻱ
من أسس الحياة التي لا يختلف عليها أحد، توافر الأمن والاستقرار في المجتمعات، فالأمن عنصر ضروري لتوفير بيئة مناسبة للعيش والبناء، وبمقدار توافر هذا العنصر يستطيع الأفراد ممارسة حياتهم وحفظ حقوقهم وأداء واجباتهم وتحقيق أهدافهم وطموحاتهم.
وقد حرصت الشريعة الإسلامية على تحصين العقول من المؤثرات الفكرية والعقدية المنحرفة أو الأفكار الشاذة التي تعمل على طمس الهوية الإسلامية، أو دفع المسلم إلى فهم مقاصد الشريعة بشكل خاطئ أو الغلو والتطرف.
لذلك فإن الأمن الفكري وفق ما يُحدده الشرع الإسلامي يكتسب أهمية خاصة تكمن في عدد من الاعتبارات أسموها علماء المسلمين «الكليات الخمس» تضم كل مفردة منها جانبا من جوانب الحياة واجبة الرعاية وهي بمثابة قواعد رئيسة تقوم عليها الحياة العامة للبشر.. وفي مجملها تشكل وعاء قيميا لأصول الأمن الذي تنشده المجتمعات شاملة الفرد والأسرة والجماعات على مر الدهور والحضارات(7).
المصادر والمراجع:
- د/ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن ربيعة: علم مقاصد الشارع، الطبعة الرابعة، العبيكان للنشر، الرياض، 1440هـ، صـ19.
- إدريس أحمد: لماذا نحتاج إلى علم المقاصد؟، إسلام أون لاين.
- الجويني: البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبدالعظيم الديب، سنة النشر 1399هـ.
- نور الدين بن مختار الخادمي: علم المقاصد الشرعية، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2001م، المبحث السادس.
- أحمد عماري: التوسط والاعتدال (2) تحذير المسلمين من الغلو في الدين، 11 أكتوبر 2015.
- جمال الفرا: الغلو في فهم مقاصد الشريعة وأثره في الانحراف الفكري، 24 ديسمبر 2021.
- د/ محمود مسعود شيبة نصار وآخرون: دور مقاصد الشريعة الإسلامية في تحقيق الأمن الفكري، كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات، الإسكندرية، مصر، المجلد الثاني من العدد 35، صـ373 وما بعده.