من الحقائق المهمة التي تُفسر سلوك طفل ما قبل المدرسة أنّ الدوافع الأساسية التي تُسيطر على سلوكه، هي الاستقلالية والمبادأة وإظهار الذاتية والشعور بالكفاءة، ذلك أنّ الدافع الأساسي للنمو هو شعور الفرد بالكفاءة والسيطرة على البيئة، لذلك فإنّ أول ما يجب أن يهتم به الوالدان والمربون هي تلك الدوافع في هذه الفترة الحساسة.
وتتوقف عملية النمو الشامل للطفل على مدى قدرة الوالدين على إشباع تلك الدوافع لديه، وتجنب وقوعه في صراعات وتناقضات بين هذه الدوافع وبين خوفه من العقاب عندما يمارس سلوكًا يشبع هذه الدوافع ويعتبره الوالدان سلوكا خاطئا؛ لذلك تنحصر أهداف رعاية الطفل في هذه المرحلة في هدفين رئيسين هما: تنمية المبادأة والثقة بالنفس وغيرهما من دوافع، ومنع وقوع الطفل في صراعات قد تكون مُدمرة لنموه النفسي فيما بعد.
الإسلام والشخصية الاستقلالية
لقد جاء الإسلام ليُكرس مفهوم الاستقلالية في حياة المسلم منذ صغره، ولا يعني هذا أنه لا رابط ولا قيود ولا مبادئ، بل إن المقصود تغيير وجهة الارتباط إلى الاتجاه الصحيح، ونسف أي ارتباط آخر قد يؤدي إلى الهلاك.
وسنّ الإسلام هذا المفهوم في جميع مجالات الحياة، ليؤكد أنّ هذه الأمة عزيزة منيعة، لها مصادرها ومناهجها الخاصة، وفي الوقت نفسه ليشيع الاستقرار والطمأنينة في ظل تنمية الذات، لذا كان أوَّل توجيه صدَر عن الوحْي إلى النبي محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5].
ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: “لا طاعةَ لِمن لم يُطِعِ الله”، ليؤصل ما يهدف إليه الإسلام من صنع شخصية ذات استقلالية، هدفها الأول إرضاء المولى – عز وجل- دون اتباع أعمى للغير.
وفي صحيح البخاري، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ”.
تنمية الاستقلالية والمبادأة
الواقع أنه ليس أيسر على الآباء تنمية الاستقلالية عند أطفالهم في هذه المرحلة بالذات، ذلك أنّ أطفال هذه الفترة يميلون بطبيعة نموهم إلى الاستقلال والانطلاق، وتقليد الكبار في كل نشاط نمطي روتيني في حياتهم اليومية، بل إنّ إصرارهم على ذلك قد يصل في بعض الأحيان إلى حدّ العناد، والرغبة في تحطيم جميع العوائق التي قد تقف حائلا في سبيل وصولهم إلى ذلك الهدف.
إذن، فإنّ رغبة الآباء الطبيعية ورغبة الأطفال التلقائية تلتقيان عند ذلك الهدف وهو تنمية الاستقلال عند الأطفال، غير أنّ الآباء غالبًا يرتكبون خطأين كبيرين في هذه المرحلة؛ الخطأ الأول: توقع توقيت قيام الطفل بالسلوكيات التي تعبر عن الاستقلال والمبادأة، والخطأ الثاني: ردات الفعل السلبية من جانبهم عندما يفشل الطفل في القيام بهذه السلوكيات، ويترتب على هذين الخطأين آثار سلبية كبيرة تُؤثر في نمو دافع الاستقلال المنشود.
فقد يتوقع بعض الآباء من أبنائهم سلوكًا يُعبر عن الاستقلال والضبط في مرحلة متقدمة أكثر من اللازم، وإذا فشلوا في ذلك كان العقاب من نصيبهم، والبعض الآخر قد لا يطلب من أطفاله سوى القليل من السلوك الاستقلالي، ويظل مستمرا في مساعدتهم لمدة طويلة، وكلا الأمرين خطأ سواء التعجل أو التأخر.
ويُنصح الأبوان بأن ينتظرا حتى يبدي الطفل رغبته في القيام بأداء واجب ما بنفسه، ثم يشجعانه على ذلك ويكافآنه بسخاء على نجاحه في مثل هذا الأداء، ومهما يكن من أمر الأداء الذي يقوم به الطفل، فإن تجنب العقاب أيا كانت صورته أمر يجب أن يلتزم به الآباء دون استثناء، مكتفين فقط بتشجيع النجاح في أداء السلوك المرغوب.
وقد أثبتت الدراسات أنّ هذا هو الأسلوب الناجح في التدريب على تنمية الاستقلال لدى الأطفال؛ لأنه يُؤدي إلى رفع مستوى الدافع للحصول على النجاح، وبالتالى فإنه يُؤدي إلى توسيع حدود قدرات الطفل وإنجازاته، على أنه من الضروري هنا أن نُوجّه انتباه الآباء إلى أن يكونوا شديدي الحرص على ألا يؤخذ تأكيدهم على الاستقلال بأي معنى آخر من ناحية الطفل، كأن ينظر إليه الطفل مثلا على أنه رفض من ناحية الوالدين.
اتجاهات ثلاثة
وقد أكدت الدراسات أن اتجاهات الآباء في التعامل مع الأطفال في هذه المرحلة تنحصر في ثلاثة اتجاهات تتمثل في ثلاثة أنماط سلوكية والدية مختلفة، ينتج عنها ثلاثة أقسام مختلفة من الأطفال وبيانها في الجدول التالي:
الاتجاه | السلوك الوالدي | سلوك الأطفال |
الاتجاه المتسلط | يمارس أصحاب هذا الاتجاه ضبطا متشددا على الأطفال، وهم في الوقت نفسه على درجة أقل من حيث حرارة العاطفة معهم، وعلى درجة أكبر من حيث الاغتراب والتباعد بالنسبة لأطفالهم. | أطفال يتميزون بعدم الثقة في أنفسهم وبالانعزالية، وكانوا أقل من غيرهم من حيث السلوك الاستقلالي، ومن حيث القدرة على الضبط. |
الاتجاه المتساهل | يتميز أصحاب هذا الاتجاه بحرارة العاطفة، إلا أنهم لا يطلبون من أبنائهم أن يقوموا بأي ضبط أو أداء الواجب، وقد يقومون عنهم بذلك. | أطفال يتميزون بعدم الثقة في أنفسهم وبالانعزالية، وكانوا أقل من غيرهم من حيث السلوك الاستقلالي ومن حيث القدرة على الضبط. |
الاتجاه الداعم | وأصحاب هذا الاتجاه يقومون بما يلي:1- يطلبون من أطفالهم أداء واجباتهم دون أن يغفلوا عن إشعارهم دائما بحرارة العاطفة نحوهم، وتقبلهم كما هم.2- يتابعون أطفالهم في تنفيذ واجباتهم وما يجب عليهم أن ينجزوه. 3- يشجعون أطفالهم باستمرار في كل مرة ينجحون فيها في أداء الواجبات المطلوبة منهم.4- يوفرون للأطفال جوًّا عائليًّا يتميز بحرارة العاطفة وبعلاقة تقوم على أساس من التقبل، لا الرفض أو النبذ أو الإهمال أو التعالي.5- هُم على استعداد لتقديم حاجات أطفالهم على حاجاتهم الشخصية إذا ما حدث تعارض بينهما. | أطفال يتميزون بالثقة في أنفسهم، وكانوا أكثر من غيرهم من حيث السلوك الاستقلالي ومن حيث القدرة على الضبط والاعتماد على النفس. |
ومن هنا يتأكد أن السلوك الوالدي الداعم الذي يركز على إيجابيات الطفل وتشجيعها ويعتمد أسلوب المكافأة على النجاح والتغاضي عن الخطأ في هذه المرحلة من مراحل حياة الطفل هو الأسلوب الوحيد القادر على تربية طفل واثق من نفسه قادر على القيام بسلوك الاستقلالية وأن السلوك الوالدي التسلطي بالمعنى وكذلك السلوك الوالدي المتساهل المدلل كلاهما يشكلان اتجاهات والدية معوقة لنمو استقلال الطفل.
سلوكيات معوقة
من الأخطاء التربوية المتجذرة في الثقافة العربية أنّ اهتمامها الأكبر في تنشئة الطفل ينصبّ على تطبيعه على الانصياع لتوقعات الكبار، سواء أكان ذلك عن طريق التسلط أم عن طريق الرعاية الزائدة، وأن الأسلوب الأكثر شيوعًا لكي ينصاع الصغير لتوقعات الكبار هو أسلوب العقاب بأشكاله المختلفة؛ العقاب البدني عند آباء الطبقة الدنيا، وإثارة الألم النفسي عن طريق التهديد بالحرمان من الحب والعطف وغير ذلك من مثيرات القلق عند آباء الطبقة المتوسطة.
وكذلك فإن قيمة الفرد ومكانته تتحددان في المقام الأول بعوامل کالسن والجنس، لا بما يسهم به من نشاط، أو بما يتحمله من مسؤوليات، ما يؤدي إلى بناء شخصيات جامدة متسلطة، ولا يساعد على تدعيم صفات مثل الانطلاق والتحرر والعمل الإيجابي المنتج، ويتركز هدف التربية على إيجاد الطفل المطيع والمؤدب!! وتؤكد التنشئة الاجتماعية على سلطة من هم أكبر من الطفل وتطلب منه أن يطيعهم.
أما الأساليب التي تستخدمها الأسرة في التنشئة فهی:
1- خلق الخوف لدى الطفل بواسطة كائنات خرافية.
2 – استخدام العقاب البدني.
3- الضغط النفسي والتهديد بالحرمان.
ويسود الاتجاه التسلطي في التنشئة في كثير من الأسر العربية – إن لم يكن في أغلبها – في البلدان العربية؛ ولا عجب في ذلك فالآباء أنفسهم يرزحون تحت عبء التسلطية كقيمة في الثقافة العربية، تمتد إلى أبعد من الأسرة لتشمل الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها من الجوانب الأخرى للثقافة بوجه عام، ويكاد يكون نمط هذه التسلطية واحدًا في جميع البلاد العربية على اختلاف ثقافاتها.
ولا يخفى على أحد ما لهذه الممارسات الخاطئة من نتائج ضارة على تنشئة أطفال أسوياء يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية وروح المبادرة، وهما نتيجتان طبيعيتان لشعور الثقة بالنفس الذي لا يمكن أن يكتسبه الطفل بالممارسات التربوية التسلطية التي تعتمد وسائل التخويف والضغط وقولبة الأطفال في قوالب جامدة، وكذلك لا يمكن أن يكتسبه الطفل المدلل، والطريق إلى ذلك يتمثل في التربية الإيجابية المتوازنة المحفزة الداعمة.
المصادر:
- حامد الفقي: دراسات في سيكولوجية النمو، دار القلم، الكويت 1976 م.
- طلعت منصور: التفكير واللغة، مكتبة الأنجلو، القاهرة 1976 م.
- محمد أحمد غالي: الإطار النظري لدراسة النمو، دار القلم، الكويت 1981 م.
- محمد عماد الدين إسماعيل: كيف نربي أطفالنا، دار النهضة العربية، القاهرة 1974 م.
- محمد عماد الدين إسماعيل: الطفل من الحمل إلى الرشد، دار القلم، الكويت 1995 م.