إن محبة الله تعالى من أعظم مقامات العبادة التي تسوق المسلم إلى الإقبال على الله بالطاعات، دون الإحساس بأي مشقة أو عناء، ومن ذاق طعم هذه المحبة حتمًا سيدرك معنى عبادة الله بحب وخشية معًا، ولا يُمكن أن يشعر العبد بتمام الحب إلا بعد الوصول إلى عدة مراتب، والإقبال على الله أول المراحل، ولا يكون الإقبال الصحيح إلا بعد معرفة الله.
وتُلزم هذه المحبة المسلم بإيثار حب الخالق- جل وعلا- على ما سواه باتباع أمره واجتناب نهيه واتباع رسوله- صلى الله عليه وسلم- في كل كبير وصغير، وسلوك طريق المحبين والتحزب للمحبين لله ونصرتهم ومودتهم وصرف المحبة الإيمانية لكل محبوب لله والبعد عن كل ما يسخط الله وينافي محبته.
محبة الله في القرآن والسنة
واهتم القرآن الكريم والسنة النبوية، بتأصيل محبة الله ونبيه- صلى الله عليه وسلم-، فقال تعالى في وصف المؤمنين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
وأكد القرآن أن حب الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- مقدم على حب الأولاد والأموال والنفوس، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
وقال- تبارك وتعالى-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31]. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم: أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنا نحب ربنا”، فأمر الله- جل وعلا- نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: “إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك”.
ومحبة المؤمن لله ورسوله إذا كانت صادقة تنفعه- بإذن الله- ولو قصر في العمل أو منعه عذر ولم يلحق بالمقربين، لما ثبت عند الترمذي عن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “أين السائل عن قيام الساعة؟”، فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: “ما أعددت لها؟” قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “المرء مع من أحب وأنت مع من أحببت”.
كيف يصل المسلم إلى محبة الله؟
وهناك أسباب يستجلب بها المسلم محبة الله الكريم، من ذلك:
- معرفة نعم الله على عباده، التي لا تعد ولا تحصى، يقول تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا}، وقد جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها، والحب على النعم من جملة شكر المنعم، ولهذا يقال: إن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح.
- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فمن عرف الله أحبه ومن أحب الله أطاعه ومن أطاع الله أكرمه ومن أكرمه الله أسكنه في جواره ومن أسكنه في جواره فطوبى له.
- ومن أعظم أسباب المعرفة الخاصة: التفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وفي القرآن شيء كثير من التذكير بآيات الله الدالة على عظمته وقدرته وجلاله وكماله وكبريائه ورأفته ورحمته وبطشه وقهره وانتقامه إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكلما قويت معرفة العبد بالله قويت محبته له ومحبته لطاعته وحصلت له لذة العبادة من الصلاة والذكر وغيرهما على قدر ذلك.
- وكثرة تلاوة القرآن الكريم بالتدبر والتفكر: سيما الآيات المتضمنة لأسماء الله وصفاته وأفعاله الباهرة ومحبة ذلك يستوجب به العبد حبّ الله ومحبة الله له.
- تذكر ما ورد في الكتاب والسنة من رؤية أهل الجنة لربهم وزيارتهم له واجتماعهم يوم المزيد فإن ذلك تستجلب به المحبة لله تعالى.
- معاملة الله بالصدق والإخلاص ومخالفة الهوى: فإن ذلك سبب لفضل الله على عبده وأن يمنحه محبته.
- كثرة ذكر الله تعالى: فمن أحب شيئًا أكثر من ذكره وبذكر الله تطمئن القلوب، ومن علامة المحبّة لله دوام الذكر بالقلب واللسان.
- التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ [البقرة: 222].
- اتباع الرسول- صلى الله عليه وسلم بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهي عنه وزجر، قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].
- الإحسان بإتقان العمل في عبادة الخالق، وفي معاملة المخلوقين، لقول الحق- عز وجل-: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].
وذكر ابن القيم- رحمه الله- في مدارج السالكين، أن الأسباب الجالبة لمحبّة المولى- عز وجل- لعبده ومحبة العبد لربه عشرة:
- قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه وما أريدَ به.
- التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض كما في الحديث القدسي: “ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه” (البخاري).
- مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك ومنفعة لغيرك.
- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل، فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب.
- دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
- إيثار ما يحب على تحب عند غلبات الهوى.
- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.
- مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
- انكسار القلب بين يديه.
- الخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
آثار حب الله على العبد
ويحصد المسلم الخير الوفير من محبة الله القدير، فعليه أن يجاهد نفسه في الإتيان بما يُحبّه الله من الأعمال على أكمل وجه، واجتناب ما يكره، حتى ينال حب الله عز وجل له، ومن آثار هذا الحب ما يلي:
- محبّةُ الملائكة وأهل الدين والخير للإنسان، ووضع القبول له في الأرض، يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96] قال ابن عباس رضي الله عنه: يُحبهم ويحببهم إلى عباده.
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ، وإذا أبْغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فيَقولُ: إنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضْهُ، قالَ فيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في أهْلِ السَّماءِ إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضُوهُ، قالَ: فيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ له البَغْضاءُ في الأرْضِ” (متفق عليه).
- السداد في الأعمال والأقوال والأفعال، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ” (البخاري).
- أن الله لا يعذبه: قال الله- عز وجل-: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾ [المائدة: 18]، وعن أنس- رضي الله عنه- قال: “مرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأُناسٍ من أصحابِه وصبيٌّ بين ظهرانَيِ الطريقِ فلما رأتْ أُمُّه الدوابَّ خشيَتْ على ابنِها أن يُوطأَ فسعتْ والهةً فقالتْ ابنِي ابنِي فاحتملتِ ابنَها فقال القومُ يا نبيَّ اللهِ ما كانت هذه لِتُلقِي ابنَها في النَّارِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا واللهِ لا يُلقِي اللهُ حبيبَه في النارِ” (صحيح على شرط الشيخان).
- أن يحميه الله من فتن الدنيا التي تضره في دينه، فعن قتادة بن النعمان- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إذا أحبَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عبدًا حماه الدُّنيا كما يَظلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماءَ” (الترمذي).
- أن يرحمه الله، لقول العلامة ابن القيم رحمه الله: “ومن أحبَّه الله فرحمته أقربُ شيء منه”.
- أن الله ييسر له فعل الطاعة وترك المعصية، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ومن فوائد محبة الله عز وجل تيسير فعل الطاعة وترك المعصية.
- وليعلم العبد أنه إذا أحبَّ الله حقاً فسيحبه الله، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أننا نضمن أنه من أحب الله حقاً فسيحبه الله لأن الله يقول: (أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) فإذا كانت محبتك لله صادقة فإن محبة الله لك مضمونة”.
إن محبة الله من أعظم مقامات العبادة، وعليها تدور رحى الطاعة والسير إلى الله، فهي تعين المؤمن على المشقة والعناء في سبيل الله وطاعته، قال فتح الموصلي: “المحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين”.
المصادر والمراجع:
- الطبري: تفسير الطبري، 6/322.
- ابن رجب: استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس، ص 315.
- ابن القيم: مدارج السالكين، 3/ 17، 18.
- عبد الله بن جار الله آل جار الله: بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين، ص 34.
- الهيثمي: مجمع الزوائد، 10/386.
- ابن القيم: بدائع الفوائد 3/17.