لقد كان لعلماء الإسلام في العصور السابقة نظريات وطُرق في تعليم وتربية الأطفال، ومنهم محمد بن سحنون الذي يُعد من رُوّاد حركة إصلاح النظام التربوي ورسم معالمه في إفريقية خلال القرن الثالث للهجرة، وذلك من خلال أثره العام في هذا المجال، حيث ترك لنا رسالة ذات أهمية في التربية والتعليم وهي كتاب (آداب المعلمين).
وفى بحثٍ حَمَلَ اسم هذا العالم وآراءه التربوية، أعدته الدكتورة نصر الجويلي، الأستاذة بالمعهد العالي للحضارة في تونس، تناولت من خلاله الآراء والنظريات التربوية التي تضمنتها هذه الرسالة وتفاصيلها.
حياة محمد بن سحنون
هو أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي، المعروف باسم محمد بن سحنون الذي وُلد في القيروان سنة 202هـ وتُوفي بها سنة 256هـ ودُفن بباب نافع.
ولمكانته العلمية صلّى عليه الأمير إبراهيم بن الأغلب، وضرب على قبره قبة وضربت الأخبية حول قبره، وأقام الناس فيها شهورًا كثيرة، حتى قامت الأسواق والبيع والشراء حول قبره نحوًا من سنة؛ فخاف من ذلك ابن الأغلب فبعث إلى ابن عم سحنون المعروف بأبي لبدة ففرق الناس.
نشأ ابن سحنون في بيت والده الإمام سحنون الذي يُعد من أكبر فقهاء القيروان في المذهب المالكي في ذلك العهد، وسهر على تربيته وتنشئته تنشئة دينية، وكان شديد الرّفق به، عطوفًا عليه، وكان يقول لمعلم ولده: “لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، فليس هو ممن يؤدب بالضرب والتعنيف، وإني لأرجو أن أكون نسيج وحده وفريد زمانه، واتركه على نحلتي”.
بعد أن حفظ ما تيسّر من القرآن الكريم، بدأ يحضر مع والده مجالس العلم والمناظرة وحلقات الدّرس بالقيروان حتى شهد له الجميع ببراعته وذلاقة لسانه وقدرته على الحجة.
يقول فيه القاضي عياض في مداركه رواية عن يحيى بن عمر: “كان ابن سحنون من أكثر الناس حجة وأثبتهم لها، وكان يناظر أباه، وكان يسمع بعض كتب أبيه في حياته، يأخذها الناس عنه قبل خروج أبيه من الدار؛ فإذا خرج أبوه قعد محمد مع الناس ليسمع معهم مع أبيه»، كما أخذ عن موسى بن معاوية الصمادحي، وعبد العزيز بن يحيى المدني، وعبد الله بن أبي حسان اليحسبي (تلميذ الإمام مالك).
وبهذه التلمذة أصبح إمامًا عالمًا بمذهب أهل المدينة عالمًا بالآثار، لم يكن في عصره أحد أجمع لفنون العلم منه.
وارتحل ابن سحنون إلى المشرق كعادة المغاربة لأداء فريضة الحج أولًا وحضور مجالس العلم سنة 235هـ، وقد أخذ عن كبار الأعلام في الفقه والأدب والحديث مثل: عبد الرحمن بن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وابن عبد الحكم بمصر، وشيبة بن شبيب النيسابوري، وعبد الله بن عبد الله بن نافع، وأنس بن عياض بالمدينة.
واستفاد من هذه الرحلة فائدة كبيرة بوّأته المكانة اللائقة به في إفريقية، فأصبح من المشهود لهم بالمعرفة الواسعة والفقه البارع والورع الصادق.
يقول فيه ابن الجزار: “كان ابن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب جامعًا لخلال قَلّ ما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر، والجدل والحديث والذب عن مذهب أهل الحجاز، سمحًا بماله، كريمًا في معاشرته، نقاعًا للناس، مطاعًا، جوادًا بماله وجاهه، وجيهًا عند الملوك والعامة، جيد النظر في الملمات”.
وكتب ابن سحنون في جملة من الفنون، وهو من أكثر أهل زمانه تأليفًا، قال المالكي: “ألف في جميع فنون العلم كتبًا كثيرة تنتهي إلى المائتين”، وقد ذكر هذه الكتب جميعها القاضي عياض في المدارك، ومن أهمها:
كتاب الجامع؛ وهو من أشهر تصانيفه، فقد اشتمل على فنون عديدة كالسِّيَر والأمثال وأدب القضاء والفرائض والتاريخ وطبقات الرجال.
المسند في الحديث، وتحريم المسكر، والإمامة، قال فيه القاضي عيسى بن مسكين: “لما وصل كتاب (الإمامة) الذي ألفه محمد بن سحنون إلى بغداد كُتب بالذهب وأهدي إلى الخليفة”.
ومسائل الجهاد، والرد على أهل البدع، وكتاب الإيمان والرد على أهل الشرك، والحجة على القدرية، والحجة على النصارى، وأحكام القرآن، وآداب المعلمين.
محمد بن سحنون وقيمة كتاب آداب المعلمين
وترجع قيمة كتاب (آداب المعلمين) لمؤلفه محمد بن سحنون إلى كونه يعد أقدم وثيقة – على حد علمنا- أُلّفت في موضوع آداب المعلم والمتعلم، وعالجت موضوع التربية في القرن الثالث للهجرة، فهذه الوثيقة تُعطينا صورة واضحة عن الجوّ الثقافي والديني في تلك الفترة، كما تبين لنا طريقة التعليم المتبعة في إفريقية والفنون التي تلقن للناشئة، إضافة إلى بيان العلاقة التي يجب أن تكون بين المعلم والمتعلم والآداب التي يجب أن يتحلى بها كل منهما.
وتضمن هذا الكتاب جملة من الأبواب، وهي:
ما جاء في تعليم القرآن الكريم، وما جاء في العدل بين الصبيان، وباب ما يكره محوه من ذكر الله ما جاء في الأدب وما يجوز ذلك وما لا يجوز، وما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعالم، وما جاء في القضاء بعطية العيد.
وشمل الكتاب: ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان، وما جاء في إجارة المعالم ومتى تجب، وما جاء في إجارة المصحف وكتب الفقه وما شابهها.
مناهج تعليم الأطفال
لمّا كان الغرض من التعليم في نظر محمد بن سحنون إعداد الفرد إعدادًا حقيقيًّا للحياة الدينية والاجتماعية فإنّ هذا الإعداد لا يجري إلا بالمعرفة والتحصيل، ومن العلوم التي يجب أن تلقن إلى الأطفال حسب رأيه:
أ- القرآن الكريم: يجعل ابن سحنون القرآن الكريم في المقام الأول بالنسبة لبقية الفنون الأخرى باعتبار أنّه الأساس الأول لمعرفة العقيدة الإسلامية وأصولها والقيام بالفرائض الدينية، لذلك يؤكد على البدء به لما له من أثر في تربية الناشئة التربية الدينية الصحيحة لأنه كما يقول صاحب مفتاح السعادة: “إن حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة حتى لا ينقطع عدد التواتر فيه؛ فلا يتطرق إليه التبديل ولا التحريف؛ وتعليمه أيضًا فرض وهو من أفضل القرب”.
وتأكيد ابن سحنون على البدء بتعلم القرآن راجع إلى أن العادة في تونس وبلاد المغرب عمومًا جرت على أن يبتدأ به أولًا، كما أن تعليم الصبيان القرآن شعيرة من شعائر الدين أخذ بها أهل الملة في جميع الأمصار، وهو ما أشار إليه القابسي بقوله: “فمن رغب إلى ربه أن يجعل له ذرية قرة أعين لم يبخل على ولده بما ينفق عليه في تعليمه القرآن”.
واعتمد ابن سحنون في ذلك على الأحاديث النبوية التي تُبين فضل القرآن وفضل من تعلمه وعلمه، مثل قوله -صلى الله الله عليه وسلم-: “إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه” وفي رواية: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”.
ب- معرفة قواعد اللغة العربية: لأن فهم القرآن يتوقف على حذق الطالب قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، غير أن تعلم العربية في نظره ليس بضروري إلا إذا اشترط ذلك عليه في حين أنه يعتبر أن معرفة إعراب القرآن ضروري ولازم للصبيان المتعلمين.
وعدم تأكيد ابن سحنون على تعليم اللغة العربية للأطفال يعود في نظرنا إلى خشية تفويت الغرض المقصود من تعلم القرآن، مثلما ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل الذي كره التوسع في معرفة اللغة وغريبها لأنه يشغل عما هو أهم منه وهو القرآن. وهكذا يعتبر ابن سحنون علوم العربية من العلوم الاختيارية كالشعر والغريب والخط.
ج- تعلم القواعد الحسابية: يرى ابن سحنون أن تعلم الحساب ضروري للصبيان، وهذا راجع إلى أن الفقهاء المسلمين يعدون الحساب من الضروريات الدينية خاصة في المعاملات وقسمة المواريث وغيرها.
وإلى هذا ذهب ابن رجب البغدادي الذي يقول: “كذلك الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقين لها. والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقلها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه”.
وهكذا فإن الحساب عندهم ذو بعد ديني أكثر منه اجتماعي، هذا خلافَا لما يراه ابن خلدون من أن الحساب مقدم على بقية الفنون الأخرى لأن الصبي في نظره ينشأ على الصدق بتعلم الحساب أولًا بعد القراءة والكتابة.
يقول ابن خلدون. “من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس، فيصير ذلك خلقًا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبًا”.
هذا إلى جانب المواد الأخرى التكميلية، كالشعر والخط وعلم التجويد والخطب، وهذه كلها على سبيل الاختيار والتطوع في نظر ابن سحنون. وهذا ما جعل أهل إفريقية يهتمون بتعليم القرآن أولًا، وهو ما عابهم عليه ابن خلدون الذي يرى أن إهمالهم قواعد العربية جعلهم لا يملكون ناصية اللغة.
التعليم الإلزامي في نظر ابن سحنون
ولما كان الغرض من التعليم عند محمد بن سحنون وفقهاء أهل السنة معرفة الدين علمًا وعملًا، فإنه أكد أن ينتفع به عامة أفراد الشعب لا فرق بين المرأة والرجل باعتبار أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، معتمدًا على ما ذكره ابن مسعود الذي يقول: “ثلاث لا بد للناس منهم: لا بد للناس من أمير يحكم بينهم، ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضًا؛ ولا بد للناس من شراء المصاحف وبيعها ولولا ذلك لقل كتاب الله، ولا بد للناس من معلم يعلم أولادهم”.
والقول بأن التعليم واجب على كل مسلم اعتراف من ابن سحنون بحق البنت في التعلم انطلاقًا من أن معرفة الدين والقيام بفرائضه حق على كل مسلم، ولأن تعليم البنت لم يكن غريبًا عن المجتمع العربي الإسلامي فالعديد من النسوة نبغت في العلم والأدب والشعر وامتلأت كتب التاريخ بنوادرهن.
على أن ابن سحنون كان ضد أن يتعلم الفتيان والفتيات في مؤسسة واحدة لأن التعليم المختلط مفسدة لهن حسب رأيه حيث قال: “وأكره للمعلم أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان لأن ذلك فساد لهم”.
إن هذا التخوف من نتائج التعليم المختلط كان حاضرًا في ذهن الكثير من الفقهاء ورجال العلم. وهذا ما جعلهم يخصصون مؤدبًا لتعليم البنات في البيوت. وما زال الفصل بين الفتيان والفتيات معمولًا به اليوم في كثير من الدول العربية والأوروبية حيث لا يسمح بالاختلاط إلا بعد تجاوز مرحلة التعليم الثانوي، ولعل هذا يعود في نظرنا إلى ذهنية خاصة وحكم مسبق على الاختلاط ونتائجه. وإن كنا نرى أن الاختلاط في المدارس الابتدائية والثانوية لا يمثل مشكلة أسرية إذا وجهنا التلميذ توجيهًا صحيحًا وبصرناه بواجباته وحملناه المسؤولية.
إلا أن ابن سحنون لم يحدد لنا السن القانونية التي تخول للصبيان التردد على الكتاب. لكن يمكن أن نتبين ذلك من خلال ما أورده الإمام سحنون، واعتمده محمد بن سحنون من أنه ينبغي للمعلم أن يأمر الصبيان بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين.
معنى هذا أن السن القانونية حسب رأينا يمكن أن تكون بين الخامسة والسادسة لأنه لا يمكن للمعلم أن يأمر الصبيان بالصلاة في سن السابعة ما لم يكونوا عارفين بكيفية آدائها وحفظ الفاتحة والمعوذتين، كما أنه لم يحدد لنا السن التي يغادر فيها الصبي الكتاب. ولكن يمكن أن نستشف ذلك من خلال ما أورده من آراء للإمام سحنون من أن المعلم يمكن له أن يضرب الصبيان على الصلاة إذا بلغوا عشر سنوات.
آداب المعلم وواجباته
تعرض محمد بن سحنون في كتاب آداب المعلمين إلى الرسالة المنوطة بعهدة المعلم وما يجب أن يكون عليه من أدب وحسن تربية ومقدرة على الأخذ بيد الصبيان. وقد عقد لذلك بابًا سماه “ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان”، ذلك أن ابن سحنون كغيره من رجال التربية في الإسلام يرى أنّ مهنة التعليم بمثابة العقد بين المعلم والمتعلم يجب الوفاء به حتى يستحق الأجر، ولا يمكن للمعلم أن يكون موفقًا في رسالته إلا إذا توفرت فيه أهم صفتين وهما:
الاستقامة وحسن السلوك، إذ عليهما يتوقف نجاح المعلم في القيام بواجباته وبهما يكون محل احترام وتقدير من قبل الصبيان والأولياء معًا باعتبار أن هذه السياسة هي التي تجعل الأطفال يطمئنون إلى معلمهم ويأخذون منه القدوة الحسنة. يقول الشيخ أبو إسحاق الحبنياني (م.379 هـ): “لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين لأن دين الصبي على دين معلمه”.
أما واجباته فيمكن تلخيصها فيما يأتي:
1- الشفقة والرحمة بالمتعلمين؛ لأنه البديل عن الأب، وهذا يوجب عليه سياستهم في كل ما فيه صلاحهم وخيرهم، بحيث إذا أمرهم فليكن أمره لهم بمعروف، وإذا نهاهم فليكن نهيه بمعروف، وهذه السياسة هي التي تجعل الأطفال يطمئنون إلى معلمهم ويأخذون منه.
2- العدل بينهم؛ لما كان العدل بين الصبيان ضروريًا وشرطًا من شروط المعلم الناجح فإن ابن سحنون وغيره من المربين المسلمين يؤكدون على ضرورة أن يعدل المعلمون بين الصبيان وذلك حتى لا يتأثر المعلم بما يقدمه له البعض من الصبيان من الهدايا أو الأجرة التي لها اعتبارها فتكون مدعاة إلى الوقوف إلى جانبهم ومعاملتهم معاملة خاصة أكثر من غيرهم لأن التمييز بينهم مدعاة إلى الحقد والكراهية والحسد نحو بعضهم.
وقد أكد أبو الحسن القابسي الذي أخذ عن ابن سحنون على العدل بين الصبيان بقوله: “ومن حقهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم ولا يفضل بعضهم على بعض وإن تفاضلوا في الجعل وإن كان بعضهم يكرمه بالهدايا والإنفاق”.
3- لا يحل للمعلم أن ينشغل عن الصبيان سواء بالقراءة أو بالكتابة؛ أو حتى التحدث مع الغير؛ إلا أن يكون في وقت لا يعرضهم فيه فلا بأس أن يتحدث وهو في ذلك ينظر إليهم ويتفقدهم.
وإذا كان لا يجوز للمعلم حسب رأي ابن سحنون أن يوكل تعليم الأطفال بعضهم إلى بعض فإنه قياسًا على ذلك لا يمكن أن يشتغل بكل ما يصرفه عن مهمته، بل ذهب ابن سحنون إلى أكثر من هذا، فقال بأنه لا يمكن للمعلم أن ينشغل عن الصبيان حتى بالصلاة على الجنائز إلا فيما لا بد له منه لأنه أجير عندهم لا يصح له أن يدع عمله.
4- مراقبة محصول الأطفال، وذلك باستظهار ما كلفوا بحفظه ومكافأتهم على ذلك. كما لا يمكن له أن ينطلق بهم من سورة إلى أخرى إلا بعد حفظها وإتقانها وإعرابها وكتابتها إلا إذا سمح له الآباء بذلك.
5- حسن استغلال الوقت المخصص للدرس؛ وذلك بأن يكون توزيعه له محكمًا فيجعل وقتًا لتعليم القرآن وآخر لإعرابه والشكل والهجاء والخط وما شابه ذلك وبذلك تكون المواد موزعة توزيعًا محكمًا وهذا التوزيع له غاية تربوية لأنه يبعد الملل والسآمة عن نفوس الأطفال. وألا يستعمل الصبيان في قضاء حوائجه لما في ذلك من الظلم في شأنهم وتجنب ما يلحقهم من ضرر وهم خارج أماكن الدرس.
حقوق المعلم
أغلب علماء التربية في الإسلام لم يولوا أهمية إلى حقوق المعلم وإن تعرض بعضهم ومنهم محمد بن سحنون إلى بعض الحقوق البسيطة، مثل:
1- أجرة المعلم: يؤكد ابن سحنون وأبو الحسن القابسي على أن المعلم يستحق الأجر المتفق عليه بقطع النظر عن طول المدة أو قصرها حتى في حالة مرض الصبي أو خروجه مع والده للسفر باعتبار أن الأجرة من الحلال اعتمادًا على قول الإمام مالك: «لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن إن اشترط شيئًا كان له حلالًا جائزًا ولا بأس بالاشتراك في ذلك».
على أن أجرة المعلم تتوقف على مدى نصحه وقيامه بمهمته أحسن قيام، فإذا لم يستفد الصبيان منه شيئًا ففي هذه الحالة يؤدَّب المعلم ويمنع من التعليم. يقول ابن سحنون: “وإذا لم يتهجأ الصبي ما يملي عليه ولا يفهم حروف القرآن لم يعط للمعلم شيئًا وأُدِّب المعلم ومُنع من التعليم إذا عرف بهذا وظهر تفريطه”.
2- عطية العيد: لم يبد ابن سحنون رأيًا واضحًا في هذه المسألة وإنما اعتمد رأي أبيه الإمام سحنون الذي يرى أن عطية العيد ليست واجبة إلا إذا تطوع بها الآباء وأعطوها عن طيب خاطر. ولا يمكن في نظره أن يكلف المعلم الصبيان فوق أجرته شيئًا من هدية وغير ذلك وإذا أعطوه تحت الطلب فإنه من قبيل الحرام.
وإذا لم يعطوه هدية العيد فلا يمكن له أن يلحق بهم أي عقاب سواء أكان ماديًا أو أدبيًا. ذلك أن محمد ابن سحنون الذي تبنى هذا الرأي يرى أن هذه الهدية فيها مشقة للأولياء وخاصة ضعفاء الحال منهم. وربما تجعل هذه الهدية المعلم يقدم أصحاب الهدايا على غيرهم. هذا خلافًا لما ذهب إليه الإمام مالك الذي يرى أنه إذا اشترط المعلم مع الأجرة المعلومة شيئًا معلومًا في عيدي الفطر والأضحى فلا بأس بذلك.
العقوبة في نظر ابن سحنون
لقد شدت هذه المسألة انتباه المربين المسلمين واختلفت فيها المواقف وإن أجمع أغلبهم على ضرورة إنزال العقوبة بالطفل عند الحاجة وبعد استنفاذ كل الطرق لأن طبيعة الأطفال تختلف، فهناك من يصلح معه الوعظ والإرشاد والترغيب، وهناك من لا تحقق معه هذه الوسائل أي تغيير في السلوك.
يقول ابن الجزار: “إن رأيت صبيًا فيه طبيعة جيدة وعادة صالحة فإنه لا تفارقه الخصال المحمودة الشريفة لأنه طبع عليها من جهتين قويتين كما أن ذلك- أي مَن طبيعتُه سيئة- لا تفارقه الخصال المذمومة الدنيئة لأنه طبع عليها من هاتين الجهتين، أعني العادة والطبيعة”، وهذا ما يفيد أن أسلوب التأديب يختلف من صبي إلى آخر تبعًا لاختلاف الطبائع.
وقد أكد محمد بن سحنون وغيره من المربين ضرورة التربية باللين وتجنب السب والشتم وألا يعاقبهم وهو في حالة غضب.
أما شروط الضرب فهي:
- ألا تكون العقوبة في حالة غضب، لأنه ليس من العدل أن يضربهم وهو في حالة نفسية مضطربة.
- أن تكون العقوبة لازمة؛ أي إذا في ذلك منفعة لهم كعدم قيام الطفل بواجباته والتشويش المفرط في الكتاب والانقطاع عن الطلب.
- أن تكون برفق؛ لأن العقاب ليس انتقامًا من الطفل وإنما هو تنبيه إلى التقصير الذي حصل منه.
- ألا يتجاوز المعلم الحد في ضربه للصبيان؛ وقد جعل محمد بن سحنون الضرب ثلاثًا ولا يتجاوز ذلك إلا إذا أذن له الأب في الأكثر، خاصة إذا ألحق الطفل أذى بغيره يقول: “ولا بأس أن يضربهم على منافعهم ولا يجاوز بالأدب ثلاثًا إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدا”.
- أما في حالة اللعب والبطالة فإنه يمكن له أن يزيد عن الثلاثة ولا يجاوز العشرة، لأنها غاية الأدب اعتمادًا على قوله – صلى الله عليه وسلم-: “لا عقوبةَ فوق عشرِ ضرباتٍ إلا في حدٍّ من حدودِ اللهِ”.
- ويرى ابن سحنون ألا يضرب السيد عبده أكثر من عشرة، فإذا زاد على ذلك قوصص به يوم القيامة إلا إذا تمادى هذا العبد في الذنوب فلا بأس أن يضربه أكثر من عشرة أسواط.
- وإذا ضرب المعلم الصبي فأخطأ ففقع عينه أو أصابه فقتله كانت على المعلم الكفارة في القتل والدية على العاقلة إذا جاوز الأدب أي الضرب المحدد. أما إذا لا يجاوز الأدب وفعل ما لا يجوز له فلا دية عليه وإنما تضمن عاقلته ما يبلغ الثلث.
- والى هذا ذهب القابسي الذي قال بالقصاص من المعلم الذي كان سببًا في قتل الصبي. يقول: “وأما العصا واللوح فقصده إلى ضرب الصبي بهما تَعَدٍّ منه فليس له عذر أكثر من أنه غضب فتعدى الواجب فاستأهل القَوَد (أي قتل القاتل بدل القتيل)”.
- أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه ولا يترك هذا الأمر لواحد منهم حتى لا تجري بينهم الحمية والمنازعة.
وهكذا فإن هذه الشروط التي وضعها ابن سحنون وغيره من المربين كالقابسي وابن خلدون تحيط الضرب بسياج من الأمن حتى لا يخرج عن معنى التأديب الموضوع له.
المصادر:
- سهام خضر: تربية الأبناء، ص 531.
- القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 1/266.
- المصدر السابق: 1/280.
- السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/247.
- الطبراني: المعجم الكبير 1/291.