الإنسان ليس معصومًا عن الخطأ والقصور والنقص؛ لأسباب متعددة، وقد اتبع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- منهجًا واضحًا، وشاملًا، ومتدرجًا في معالجة بأساليب تُحقق أعلى درجات النجاح والفائدة والنفع للفرد والمجتمع.
ومما يُبين عظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم- أنّ منهجه لم يعتمد على العقاب لما يصدر من أخطاء؛ إنما اعتمد على منهج الرحمة وما يعقبها من أوجه الإحسان للمخطئين، على حسب حالة المخطئ ونوع الخطأ.
وفي دراسة للدكتور عبد الكريم بن عبد العزيز، بعنوان: “رحمة الرسول في مُعَالجَة الأخطَاء”، أشار إلى عظمة الإسلام من خلال بيان عظمة رحمة رسوله الخاتم – صلى الله عليه وسلم- في تعاملاته، وأخلاقه، وتصرفاته مع العموم، ومع المخطئين خصوصا؛ بما يجذب قلوبهم إلى الإسلام، وإلى الثبات عليه.
معالجة الأخطاء للمسلمين
بين الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنّ كل ابن آدم خطاء؛ ولا يُعصم من ذلك إلا الأنبياء والرسل في تبليغ الرسالة، واتبع الرسول الكريم في معالجة الأخطاء للمسلمين هذا النهج الرباني، فقال – صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” (الترمذي)، وقال – صلى الله عليه وسلم- : “إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ، و النسيانَ، و ما اسْتُكرِهوا عليه” (صحيح الجامع).
وعن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- قال: مر النبي – صلى الله عليه وسلم- بقبرين، فقال: “إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة. فأخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: “لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا”.
ومن أوجه إحسان النبي – صلى الله عليه وسلم- في رحمته عند معالجة خطأ صاحبي القبرين، ما يلي:
أن النبي – صلى الله عليه وسلم- رحم صاحبي القبرين؛ فأحسن إليهما من خلال توقفه عند قبريهما، وإحساسه بالرحمة تجاههما؛ لأنهما يعذبان، فلم تقتصر رحمته – صلى الله عليه وسلم- بالأحياء؛ بل امتدت رحمته بالإحسان إلى مرتكبي الأخطاء من الأموات.
أن النبي – صلى الله عليه وسلم- أحسن إليهما بالدعاء لهما؛ للتخفيف مما يعانيانه من العذاب. قال ابن حجر عن الخطابي: “هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس”.
أن النبي – صلى الله عليه وسلم- رحمهما، من خلال الإحسان إليهما بسؤاله الشفاعة لهما بالتهوين من العذاب في القبر؛ بسبب عدم الاستتار من البول، أو من السعي بالنميمة بين الناس؛ فقد نقل النووي الإجماع على ذلك، قال العلماء: “هو محمول على أنه – صلى الله عليه وسلم- سأل الشفاعة لهما؛ فأجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا. وقيل: يحتمل أنه – صلى الله عليه وسلم- يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لكونهما يسبحان الله ما دامتا رطبتين”.
أن النبي – صلى الله عليه وسلم- رحمهما؛ من خلال الإحسان إليهما عندما أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة؛ تبركًا بأثره – صلى الله عليه وسلم.
والخطأ صفة متعلقة بالبشر من غير الأنبياء والرسل؛ فلا يسلم منها أحد، قال ابن تيمية: “ليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم؛ بل ليس من شروطهم ترك الصغائر مطلقا؛ بل ليس من شروطهم ترك الكبائر، أو الكفر الذي تعقبه توبة”.
وذكر ابن القيم: “وكيف يُعصم من الخطأ من خلق ظلوما؛ ولكن من عُدّت غلطاته، كان أقرب إلى الصواب ممن عُدت إصاباته”.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- رحيمًا في تعامله مع ما يصدر من أخطاء من الصحابة؛ بما يحقق المصلحة العامة والخاصة، سواء أكان المخطئ عالمًا أم جاهلًا، وفي كل الحالتين كان للنبي – صلى الله عليه وسلم- منهجا دقيقا في التعامل مع الأخطاء ومعالجتها بما يراعي الحالات المختلفة.
معالجة الأخطاء لغير المسلمين
بُعث الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم للناس كافة، لذا كانت معالجة الأخطاء لغير المسلمين من منهجه القويم؛ قال تعالى: {وَمَا أرسَلناكَ إلَّا رحمةً للعَالمِينَ} (الأنبياء: 107)، ورجّح الطبري في تفسيره: أن هذه الرحمة تشمل المؤمنين والكافرين. يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة” (البخاري). وعندما قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ادع على المشركين، قال: “إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة”.
ويروي جابر بن عبد الله، قال: قاتل النبي – صلى الله عليه وسلم- محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: “الله”، قال: فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- السيف، فقال له: “من يمنعك مني؟”، قال: كن خير آخذ، قال: “تشهد أن لا إله إلا الله”، قال: لا؛ ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى سبيله فجاء إلى أصحابه، فقال: “جئتكم من عند خير الناس” (أخرجه أحمد).
ومن أوجه إحسان النبي – صلى الله عليه وسلم- في رحمته بغورث بن الحارث، أنه رحمه فلم يعاقبه، كما خلى سبيله، وعفا عنه. قال ابن بطال: “وفيه ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده – إن شاء- والعفو عنه إن أحب، وفيه صبر الرسول – صلى الله عليه وسلم- وحلمه، وصفحه عن الجهال”.
وأنه – صلى الله عليه وسلم- لم يكتف برحمته لذلك الرجل؛ بل أراد – صلى الله عليه وسلم- أن يشمل إحسانه في رحمته قوم ذلك الرجل، من خلال ائتلاف قلوبهم عند علمهم بما حدث من عفو النبي الكريم عن رجل منهم؛ وذلك لشدة رغبة النبي – صلى الله عليه وسلم- في ائتلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام، لم يؤاخذه بما صنع؛ بل عفا عنه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي – صلى الله عليه وسلم- فمرض، فأتاه النبي – لى الله عليه وسلم- يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له : “أسلم”، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: “أطع أبا القاسم”، فأسلم؛ فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار” (صحيح ابن حبان).
وروى ابن عمر – رضي الله عنه- قال: لما تُوفي عبد الله بن أبي بن سلول، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إنما خيرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ . . . } (التوبة: 80)، وسأزيده على السبعين”، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} (التوبة: 84).
ومن أوجه إحسان النبي – صلى الله عليه وسلم- في رحمته بابن عبد الله بن أبي بن سلول، ما يلي:
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- استجاب له فرحمه؛ فأعطاه قميصه ليكفن فيه أباه.
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- استجاب لابن عبد الله بن أبي بالصلاة على والده.
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- استغفر له، كما ورد في رواية القسطلاني في إرشاد الساري وفي الحديث: «إنما خيرني الله». قال العيني: «أي: بين الاستغفار وتركه. وسأزيد؛ أي: حمل النبي – صلى الله عليه وسلم- عدد السبعين على حقيقته”.
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- دعا لوالد عبد الله بن عبد الله بن أبي – رحمة منه به-، وذلك لأن الصلاة على الميت تتضمن الدعاء له؛ شفقة وتأليفًا لقلب ولده وأقوامهم. قال العيني: “وقصد النبي – صلى الله عليه وسلم- الشفقة على من تعلق بطرف من الدين، والتأليف لابنه ولقومه، فاستعمل أحسن الأمرين وأفضلهم”.
وفي اعتراض عمر رضي الله عنه، على الصلاة على عبد الله بن أبي بن سلول، وصلاة النبي – صلى الله عليه وسلم- عليه، ثم نزول قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ . . . } (التوبة: 80)، يذكر ابن بطال: “فرض على جميع المؤمنين متعين على كل واحد ألا يدعو للمشركين، ولا يستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم”.
ويعقب ابن حجر على الحادثة تعقيبًا يجمع بين الأمرين، فيقول: “وإنما لم يأخذ النبي ﷺ بقول عمر إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام، كما تقدم تقريره، واستصحابًا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحقق صلاحيته، ومصلحة الائتلاف لقومه ودفع المفسدة”.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح؛ ثم أمر بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك؛ لمصلحة الائتلاف، وعدم التنفير منه.
صفات تتعلق برحمة النبي
إن سيرة – صلى الله عليه وسلم- لتشهد بأنه رحمة مهداة، وأنه غرس معاني الرحمة في أصحابه، وأوصاهم بها، وملأ تعاليمه بذكرها، ولعل من المهم في جانب تلمس هدايات رحمته – صلى الله عليه وسلم- في معالجة الأخطاء أن نتبين شيئًا من صفاته المتعلقة بذلك:
1- اللين: فقد أثنى الله – جل جلاله- على رسوله – صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة؛ لما لها من أثر في إقامة العلاقات الطيبة، وتحقيق اللُّحمة والترابط بين أفراد المجتمع؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (التوبة: 159). قال الطبري: “فتأويل الكلام: فبرحمة الله يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك؛ لِنْتَ لهم، أي: لأتباعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك؛ حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم. ويقرر القرطبي تلك الصفة، وأنها تَفَضُّل من الله سبحانه وتعالى، ويوضح ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ . . . }.
وقد بين ابن الجوزي أثر اللين في المخاطبة على المخاطب، قال: “فالله الله أن تحدث مخلوقًا من العوام بما لا يحتمله، دون احتيال وتلطف؛ فإنه لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه، فكذلك كل ما يتعلق بالأصول”، ويظهر أثر صفة اللين وارتباطها برحمة المخاطب، وإقباله على الناصح وتقبله للنصحية، فالأسلوب يكون لينًا، والمتحدث لبقًا، دمث الخلق؛ مما يسبب انشراح الصدر للسماع، بعكس الأسلوب الجاف الذي يؤدي إلى المكابرة والنفور.
وتظهر صفة الرحمة بالمخطئ والإحسان إليه متلبسة باللين في التعامل في مواقف وحالات معينة، ترتبط إما بغير المسلم، أو بالجاهل ومن في حكمه. أما في حالة الخطأ في أمر شرعي ممن هو متصف بالعلم والمعرفة، فيظهر أسلوب الحزم والشدة، قال ابن حزم: “وأما الغلظة والشدة في ذلك للقادر على إقامة الحد خاصة”.
2- حسن الخلق: إن من أهم صفات الراحم بالمخطئ والإحسان إليه، ما ينبغي أن يتمتع به من حسن الخلق، ولا ريب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان أعلى الناس قدرًا، وأعظمهم محلًا، وأكملهم محاسنًا وفضلًا.
ومن خلال سيرته – صلى الله عليه وسلم- وتعاملاته مع أمته؛ يظهر عظم أخلاقه القولية والفعلية، ذكر صفي الرحمن المباركفوري: “وكان – صلى الله عليه وسلم- دائم البشر، سهل الخلق، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، وكان أكثر الناس تبسمًا”.
كما أن حسن الخلق من أبرز ملامح الرحمة التي أرسل بها – صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
3- العلم بأحوال المخاطبين: إن من الأمور المهمة في تمثل الرحمة عند التعامل مع المخطئين، أن يكون المتعامل عالمًا بأحوال الناس، فكل نوع من البشر يحتاج إلى أسلوب وطريقة في التعامل؛ لكي يتحقق الهدف، ويصلح الخطأ، وتثمر التربية. ومن المهم معرفة الفروق الفردية عند تصحيح أخطاء الآخرين، فكلما زادت معرفة المعلم بهذه الفروق الموجودة بين التلاميذ؛ سهل تدريبهم وتوجيههم نحو تحقيق الأغراض التربوية المختلفة.
وكما أن مغاليق الأبواب لها مفاتيح، فكذلك مغاليق النفوس لها مفاتيح؛ فلا بُد من أن يتصف الراحم بالمفاتيح التي من خلالها يتيسر له التعامل مع مختلف النفوس البشرية؛ وتقصر الزمن اللازم للتأثير وتحقيق الاستجابة المناسبة، والتأثر بالإقلاع عن الخطأ، والسعي نحو تمثل الحق والانصياع له.
4- تقدير الموقف وتشخيص الخطأ: يعتمد النجاح في معالجة الخطأ على ما يتصف به الراحم في إحسانه إلى المخطئ، على حسن تقديره للموقف الخطأ عمومًا، والتمكن العقلي من تحليل الخطأ وتشخيصه، وأن تكون النظرة موضوعية واقعية، فعبد الله بن عمرو قال: أُخبِر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أني أقول: “والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت”، فقلت به: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: “فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاث أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر”، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: “فصم يومًا وأفطر يومين”، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: “فصم يومًا وأفطر يومًا فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام»، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “لا أفضل من ذلك يُذكر” (البخاري).
ومن تقدير الموقف أن يتعرف الراحم على مدى مستوى عقلية المقابل، فعن المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك. فقال: إني ساببت رجلًا فعيرته بأمه فقال لي النبي – صلى الله عليه وسلم-: “يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم” (البخاري ومسلم)، قال ابن سعدي: وعلى المعلم أن ينظر إلى ذهن المتعلم، وقوة استعداده أو ضعفه. كما ينبغي أن يهتم بردود فعل المخطئين، وأن يكون لديه البدائل المناسبة لمقابلتها، وإن اعتذر قبلتَ، وإن أخذ في الخصومة صفحتَ، وأريته أن الأمر قريب”.
5- التوازن الاتصالي: إن مما يجدر بالراحم عند إحسانه في التعامل مع عيوب المخطئين، أن يتصف بالأسلوب المناسب، سواء كان في الخطاب اللفظي، أو التصرف الحركي. وكان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يوجه بشكل عام إن رأي خطأ أو تجاوزًا من أحد الصحابة فيعمم الخطاب، يقول الرحيلي: “وأما النطق بعيوب الناس؛ فعيب كبير لا يسوغ أصلًا، والواجب اجتنابه”.
وعندما يتصف الراحم بتلك الصفات، ويتمثلها في نفسه، ويصطبغ بها أسلوبه؛ فإنه لها أثرًا بالغًا في بناء علاقات إنسانية متجذرة، وإلى أبعاد نفسية إيجابية قائمة على التفاعل المتبادل والارتياح العاطفي؛ مما يقرب القلوب، ويبني جسور التواصل؛ وعندها يحدث التأثير.
أساليب رحمة النبي بالمخطئين
بعد تناول بعض أهم صفات الراحم لمن يتلبس بالخطأ، من خلال النظر والتأمل في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم-؛ ناسب أن نستعرض شيئًا من أهم الأساليب المستخدمة في التعامل عند معالجة الأخطاء للمسلمين وغير المسلمين، وتفضيل ذلك يظهر في مظهرين:
الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف الشريعة، أي: ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم.
وإن من أهم مظاهر رحمته – صلى الله عليه وسلم- ما يظهر في تعاملاته مع أمته من أساليب حانية، وطرائق محببة؛ تقرب النفوس للنفوس، وتؤلف القلوب، وتكسب الحب والمودة، وتزيد من الثبات على الإيمان؛ قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة: 61).
وقد بين أبو حيان الأندلسي، وجه تخصيص الرحمة بالمؤمنين، وإن كان – صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين بقوله: «لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يحصل لغيرهم، وخُصوا هنا بالذكر، وإن كانوا قد دخلوا في العالمين؛ لحصول مزيتهم”.
وتحتوي سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم- على كم كبير من الأساليب الرحيمة في تعامله – صلى الله عليه وسلم- عند معالجة المخطئين، ومنها:
1- العفو، والاستغفار، والمشاورة: خلق الله – سبحانه وتعالى- الإنسان، وجعله معرضًا للخطأ، قال – صلى الله عليه وسلم-: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”. وتتنوع أسباب الخطأ وتتعدد، وفي ذلك يذكر ابن الجوزي أن من المخطئين: “الجاهل بالخطأِ المحظورِ، الظان بأن المحظور مكروه وليس بمحرم؛ والمتأول؛ والمخطئ عن شهوة؛ والعالم بالخطأ، المغتر بالعفو».
ولأجل مقابلة تلك الأخطاء ومعالجتها، يوجه الله سبحانه وتعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159)، حيث يرشد الله جل جلاله نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم- إلى الطريقة التي يتعامل فيها مع أصحابه، وبخاصة ما يواجهه من أذى ونحوه.
ويلفت القرطبي إلى سر ذلك التدرج الوارد في الآية بوصفه أسلوبًا من أساليب التعامل مع الآخرين عند معالجة أخطائهم، وتوجيه سلوكياتهم: “أمر الله – تعالى- رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو – صلى الله عليه وسلم- عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة؛ أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذ صاروا في هذه الدرجة؛ كانوا أهلًا للاستشارة في الأمور”.
2- التواصل التربوي ومراعاة النفسيات: أثنى الله جل جلاله على نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم- في علاقته مع أمته وتعاملاته معهم بأنه؛ قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)، أي: للذين أظهروا الإيمان منكم، حيث يقبله منهم؛ لكن لا تصديقًا لهم في ذلك؛ بل رفقًا بهم، وترحمًا عليهم، ولا يكشف أسرارهم، ولا يهتك أستارهم. وبتحقيق هذه الرحمة المتبادلة؛ يحصل التواصل الإنساني الإيجابي المثمر؛ حيث إنه يزيد من قدرتنا على توجيه مختلف الأعمار، والتحكم في العوامل والمؤثرات التي تؤثر في النمو؛ بما يحقق التغيرات المفضلة لدينا، ويوقف التغيرات السيئة. كما أن غاية التواصل الإنساني إحداث التفاعل الاجتماعي المناسب، وإحداث التغيير الإيجابي، وتعديل السلوك البشري.
ويذكر حامد زهران – معالج نفسي-: “إن التفاعل الاجتماعي هو ما يحدث عندما يتصل فردان أو أكثر، ويحدث نتيجة لذلك تعديل للسلوك”. وبقدر ما يكون ذلك التواصل الإنساني مبنيًا على أسس وقواعد دقيقة، ومراعيًا لمختلف العوامل المحيطة؛ فإنه يكون تغييرًا مستمرًا، سريعًا، عميق الجذور، واسع النطاق، هادف المقصد، منطلق السريرة.
3- الإقناع العقلي: إن من أساليب الراحم في إحسانه إلى المخطئ في معالجته لخطئه، اللجوء إلى سبيل الإقناع بالحجة، ومن ذلك قصة الشاب الذي طلب من الرسول – صلى الله عليه وسلم- الإذن بالزنا، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “أترضاه لأمك! …”
لذا لزم على الراحم في معالجته للمخطئ أن يحسن التشخيص للموقف، ويحسن التعامل في المعالجة؛ لأجل المساعدة على الرقي بحال المقابل كما كان يفعل النبي – صلى الله عليه وسلم-، يقول ابن حزم: “الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار؛ فقد أخطأ، وتعدى طريقته – صلى الله عليه وسلم”.
4- الستر: قد لا يدرك فئات من الناس مآلات ما يقعون فيه من أخطاء، أو تجاوزات بحق الله – تبارك تعالى- أو بحقوق الناس، قال ابن القيم: “وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، فضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب”.
وتبرز أهمية صفة الرحمة من خلال رحمتهم بالستر عليهم دون جرح لمشاعرهم، وبتقديم النصيحة لهم، والتصحيح لما هم فيه من خطأ بطريق التعميم؛ فإن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة.
ويحدد ابن حزم مدى أثر التعميم في النصيحة والموعظة بطريقة مقبولة محببة إلى النفس، فقال: “ومن وعظ ببشر وتبسم ولين، وكأنه مشير برأي، ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح من الموعوظ؛ فذلك أبلغ وأنجح في الموعظة”.
خاتمة
إنّ الرحمة صفة قلبية فطرية، ومكتسبة، ويظهر أثرها في صورة إحسان وتفضل على الناس عامة، وفي معالجة الأخطاء للمخطئين على وجه الخصوص، وإن عِظم رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم- وشمول إحسانه على جميع فئات المخطئين من المسلمين وغير المسلمين، سواء كانوا جاهلين أم عالمين.
ولقد تجلّت رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم- في مراعاة عدم تضرر الإنسان، أو المكان، وحصر المشكلة والقضاء عليها، وعدم إحراج المخطئ أمام الناس، والعناية بمشاعره، واستغلال المواقف في نصح الأمة، وتعليمها، والتسامح وعدم الانتصار للنفس، والإحسان والتفضيل في التعامل، والعطاء لأجل تأليف القلوب.
وأنّ أوجه الإحسان المترتبة على الرحمة بالمخطئين تختلف وتتنوع حسب حالة المخطئ، فقد يكون الإحسان:
– هادفًا إلى تأليف القلب، إن كان غير مسلم، أو حديث عهد بإسلام.
– حازمًا إن كان الخطأ من شخص عالم؛ إشعارًا بتعظيم حدود الله سبحانه وتعالى.
– متعاملًا بمداراة ولين إن كان المقابل جاهلًا، لتثبيت قلبه، وزيادة إيمانه.
والرحمة تضبط العلاقات الإنسانية، وتهذب الأخلاق، كما تؤدي إلى حسن التصرف مع الآخرين، وتقلل المشكلات بين البشر؛ بل تُشيع المحبة، والترابط، وتزيد من اللُّحمة بين الأفراد في المجتمع.
المصادر:
- عبد الرحمن بن أحمد علوش المدخلي: فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف، 1/6.
- ابن قيم الجوزي: مدارج السالكين، 3/225.
- العيني: عمدة القاري، 190/14.
- ابن حجر: فتح الباري، ص 182.
- الطبري: تفسير الطبري، سورة التوبة، آية 159.
- ابن حزم الأندلسي: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ص 62.
- السعدي: نور البصائر والألباب في أحكام العبادات والمعاملات والحقوق والآداب، ص 76.
- أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، 5/64.