يحتاج الآباء والعاملون في حقل الدعوة إلى الله – تبارك وتعالى- إلى معرفة صفات المربي الناجح ليتعلموا منها ويتشرّبوها في سبيل اختصار الوقت والجهد للتأثير على المتربين، وتوجيه بوصلتهم إلى الوجهة الصحيحة.
وكلّما زاد المربي من اكتساب الصفات الحميدة، زاد نجاحه في تربية ما يتعهده سواء كان ابنه أو أخيه أو تلميذه، وهذا لا يعني أنّ التربية تقع على عاتق شخص واحد، بل كل مَن حول المتربي يُسهم في تربيته، ومن أبرز الصفات التي يجب على المربي اكتسابها: الانضباط في الوقت، والكتمان وحفظ السر، والقدرة على الوفاء بالعهد.
الانضباط في الوقت من صفات المربي الناجح
ومن أهم صفات المربي الناجح، الانضباط في الوقت، ولبيان أهمية هذه الصفة، فقد أقسم الله تعالى بالوقت في مطالع سور عديدة من القرآن المكي، مثل: الليل والنهار والفجر والضحى والعصر، فيقسم الله – عز وجل- بالعصر: (وَالعَصْرِ * إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ)، وبالفجر: (وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، وبالضحى (وَالضُّحَى وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى)، ومن المعروف لدى المفسرين وفي حس المسلمين أنّ الله إذا أقسم بشيء من خلقه، فذلك ليلفت أنظارهم له وينبههم على جليل منفعته وآثاره.
وجاءت السنة النبوية تؤكد قيمة الوقت وتُقرر مسؤولية الإنسان عنه بين يدي الله يوم القيامة، حتى إن الأسئلة الأربعة الأساسية التي توجه إلى المكلف يوم الحساب يخص الوقت منها سؤالان رئيسيان: فعن معاذ بن جبل أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به”، (رواه البزار والطبراني).
وهكذا يسأل الإنسان عن عمره عامة، وعن شبابه خاصة، والشباب جزء من العمر ومرحلة القوة بين ضعفين، ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، ويقول – صلى الله عليه وسلم-: “اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”، (أخرجه البخاري).
وفي هذا الحديث يؤكد الرسول – صلى الله عليه وسلم- أهمية الوقت في ثلاثة مواضع “شبابك وفراغك وحياتك”، ويقول – صلى الله عليه وسلم-: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، أي لا يغتنمهما ثم لا يعرف قدرهما إلا بعد زوالهما.
وكان الحسن يقول في موعظته: “المبادرة؛ فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله -عز وجل-، رحم الله امرأً نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه ثم قرأ الآية: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم: 84]، يعني الأنفاس، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك قبرك.
وتزداد أهمية الوقت إذا كان يقضى في الخيرات والمبادرة إلى الطاعات، ولذلك نجد توجيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر بن الخطاب يقول: “أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور” والمراد من الحديث هو الحث على المسارعة بالأعمال الصالحة، فالمستقبل مجهول، لذا على المربي أن ينتبه للآتي:
– أن يعرف ضرورة الالتزام بالموعد، فقد جاءت فرائض وشعائر الإسلام وآدابه تثبت هذا المعنى الكبير فالصلاة لها وقتها المحدد: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [ النساء: 103].
– وأن يعرف ضرر الخلف في الموعد، الذي يعد من صفات المنافقين، وقد يحدث نتيجة التسويف وعدم المسارعة بعمل ما وعدنا به وتنفيذه في حينه ولسرعة انقضاء الوقت واستحالة عودته، فقد يفوتنا كثير، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، كما أن خلف الموعد يفقد الثقة بين المتعاقدين، ويربك العمل، ويضيع وقتا كان المفروض أن يستثمر في إنجاز ما يفيد، إضافة إلى ضياع حقوق الآخرين.
ولقد كان السلف يحافظون على أوقاتهم ويوفون بوعدهم أكثر مما يحافظ التاجر على ماله، وفي سيرة عمر بن عبد العزيز عبرة بالغة، ففي أقل من ثلاث سنوات يصحح مسار الدولة ويقيم العدل ويجري الله الخير على يديه.
يقول الحسن البصري: “أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم”.
من صفات المربي: الكتمان وحفظ السر
ومن أبرز صفات المربي الناجح وأهمها، الكتمان وحفظ السر، فنحن أمة مجاهدة أبدًا وأمة هذا شأنها لا بُد من أن ينمو عند كل فرد فيها الحس الأمني فيعرف ماذا يقول وماذا يجب أن يكتم وعلى من يجب أن يكتم.
وقد وردت شواهد كثيرة في القرآن والسنة على أهمية الحذر واتخاذ الأسباب للحفاظ على الأسرار الخاصة بالفرد والمدرسة، ففي القرآن الكريم يقول – سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]، وقال – عز وجل-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].
وكتمان السر هو حفظ للأمانة كما قال – صلى الله عليه وسلم-: “إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة” رواه أبو داود والترمذي، وقيل “إنما يتجالس المتجالسون بالأمانة فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره”.
ويجب على كل مسلم – وهو في حق الدعاة أوجب- أن يحفظ لسانه ولا يغفل عنه، وليتذكر قوله – صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: “وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم” أخرجه الترمذي، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم- ما النجاة ؟ قال: “أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك” أخرجه الشيخان.
وقال – صلى الله عليه وسلم-: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، رواه الطبراني والعقيلي وابن عدي، وأنس – رضي الله عنه- قال: “أتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ونحن صبيان فسلم علينا وأرسلني في حاجة وجلس في الطريق ينتظرني حتى رجعت إليه، قال: فأبطأت على أم سليم، قالت ما حبسك؟ فقلت بعثني النبي في حاجة. قال: ما هي ؟ قلت: إنها سر، قالت: فاحفظ سر رسول الله” (البخاري).
وكتمان السر له فوائد عديدة، نذكر منها:
1- الدلالة على فضل صاحبه وكرم أخلاقه، فكما لا خير في آنية لا تمسك ما فيها، كذلك لا خير في الإنسان إذا لم يملك سره وقيل: (صدور الأحرار قبور الأسرار).
2- الاستعانة على حصول المقاصد، ففي الحديث: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) الطبراني وابن عدي والعقيلي.
3- للكتمان أثره في تحقيق السلامة والاطمئنان والاستقرار: كما في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
4- للكتمان أثره في تحقيق النصر في أي معركة أو إنجاز الأعمال التي تتطلب ذلك: فقد خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في السنة الخامسة من الهجرة من المدينة المنورة ومعه عدد من المسلمين يكمن بهم نهارا ويسير ليلا حتى وصل إلى دومة الجندل وأعانهم الكتمان على مباغتة القبائل والنصر عليهم- رغم الفارق بين عدد المسلمين القليل وعدد عدوهم الكثير.
5- توثيق الصلة بين الطلاب: فإذا وجد الطالب أن أسراره مصانة بين زملائه وأن أحدهم لو اطلع على سره ستره إن كان هناك عيبا، فهذا أدعى إلى شدة الالتحام وتوثيق الصلة وزيادة الثقة بين أفراد الصف.
وعلى النقيض فإن كان من صفات المربي إفشاء الأسرار وعدم الكتمان فلذلك مضار عديدة، منها:
1- خيانة للأمانة، وقد نزلت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، في أبي لبابة حين أفشى سر رسول الله إلى بني قريظة.
2- إفشاء السر يعود بالضرر على من زل به لسانه ولما أفشى يوسف – عليه السلام- سرّه في رؤياه بمشهد امرأة أبيه أخبرت إخوته فحل به ما حل.
3- إفشاء سر الطلاب يؤدي إلى ضياع الثقة بينهم ويتعارض مع دواعي الأخوة، وقد أباح الإمام الغزالي لمستودع السر، الكذب حفاظا على سر أخيه.
4- إذا تعود الطالب على عدم كتمان الأسرار وحفظ لسانه، فقد يؤدي إلى أضرار كثيرة عند وقوعه في أيدي الأعداء.
القدرة على الوفاء بالعهد
ومن صفات المربي الذي يسعى إلى النجاح دائمًا، القدرة على الوفاء بالعهد، فقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالوفاء بالعهود في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [ المائدة: 1 ]، وقال – جل شأنه- (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [ الإسراء: 34 ].
يقول الأستاذ سيد قطب في الآية الأولى: “إنه لا بُد من ضوابط للحياة.. حياة المرء مع نفسه وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء.. الناس من الأقربين والأبعدين من الأهل والعشيرة ومن الجماعة والأمة ومن الأصدقاء والأعداء ثم حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به، وهى أساس كل حياة، وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود يعطي كلمة (العقود) معنى أوسع ويكشف عن أن المقصود بالعقود هي كل ضوابط الحياة التي قررها الله، وفي أولها عقد الإيمان بالله ومعرفة حقيقة ألوهيته، سبحانه”.
هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم – عليه السلام- وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض بشرط وعقد، قال -تبارك وتعالى-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 38–39].
وقال – صلى الله عليه وسلم-: “أد الأمانة إلى من ائتمنك”، وقال في خطبته في حجة الوداع: “من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها”.
وفي حديث ابن مسعود من قوله وروي مرفوعا “القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك، فيقول: من أين يا رب؟ وقد ذهبت الدنيا، فيقول: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوى به حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عنقه، فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأى أنه قد خرج منها زلت فهويت فيهوي في أثرها أبد الآبدين.
وفي المقابل، فإن نقض العهود من صفات المنافقين، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) [الأحزاب: 15]، وقد نزلت هذه الآية في المنافقين وكانوا يُولون الأدبار ويفرون من الزحف، فعاهدوا الله ورسوله ألا يعودوا لمثله، غير أنهم نقضوا العهد وغدروا بالوعد وعاودهم جبنهم حينما دعوا لمقابلة أعداء الله في غزوة الأحزاب، فعدم الوفاء بالعهد قد يدخل المسلم في دائرة النفاق أعاذنا الله منه، وفي هذا الشأن أحاديث كثيرة هاك بعضها:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان” (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم “… وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم”.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر”.
أمّا نقض عهود المسلمين فهي أشد إثما، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فذكر منهم: ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفى له، وإلا لم يف له”.
ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر فيها أن يؤدي الطالب الدين في الموعد المحدد وكذلك جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات.
المصادر:
- يوسف القرضاوي: كتاب الوقت في حياة المسلم.
- البغوي: شرح السنة، 14/255.
- ابن هشام: السيرة النبوية لابن هشام.
- كتمان السر من خصال الكرام https://bit.ly/3H6d3tD
- سيد قطب: في ظلال القرآن، 6/835.