تأتي المشكلات الزوجية على رأس الأسباب التي تؤدي إلى نفور الأبناء من المنزل وعدم اندماجهم مع الوالدين في الحديث، سيما إذا دخل كل من الأب والأم يوميًّا في معركة وخلاف يُعمّق الجراح النفسية عند الأبناء ويزيد لديهم شعور العدوانية وعدم القدرة على التعبير، أو معرفة التعامل مع الآخرين، وبالتالي يُفضّلون الهرب والخروج من البيت.
ولأن الأسرة هي العماد الذي ترتكز عليه قواعد المجتمع وفيها يجد كل أفرادها الأمان والطمأنينة، خصوصًا الأطفال، كان لزامًا على الوالدين أن يعاملوا أبناءهم معاملة حسنة وأن تكون العلاقة بينهم علاقة صداقة لكسب قلوبهم، وبذلك عند حدوث أي مشكلة للأبناء سوف يتجهون لذويهم لأن مسالك الحوار والاحتواء مفتوحة بينهم.
بين نفور الأبناء من المنزل والاستقلالية
وتختلف الرغبة في الاستقلالية عن نفور الأبناء من المنزل والخروج من سياج الأسرة، إذ إن الأولى يشعر بها كثير من الشباب، خصوصًا في فترة الجامعة وربما ما قبلها، نتيجة تغيرات نفسية وبيولوجية تدفع الشاب إلى تعميق صلاته مع أصدقائه على حساب أفراد الأسرة، في محاولة لإثبات رجولته واكتشاف العالم الخارجي.
وهذا بلا شك أمر طبيعي يُدركه كثير من الآباء والأمهات، لذا يعمدون إلى مصاحبة أبنائهم في هذه المرحلة والتقرب منهم كأصدقاء مع احترام خصوصيتهم واستقلاليتهم دون تهور أو شطط، وهو ما يُميز الأُسر المتماسكة.
لكن قد يزداد الأمر ويبتعد الابن عن أسرته ويزداد النفور من والديه، وبخاصة في الأسرة كثيرة المشكلات وغير المترابطة التي يسود فيها جوّ الديكتاتورية، ما يدفع الشاب إلى البحث عمّن يفهمه ويُخفف عنه، فلا يجد ذلك إلا في الأصدقاء، وربما يكونوا أصدقاء سوء(1).
أسباب نفور الأبناء من المنزل
يعلم الجميع أن الوالدين لديهم حب غير مشروط لأطفالهم وأنهم يُريدون لهم أن الشعور نفسه تجاههم، لكن هناك آباء وأمهات يتصفون ببعض السلوكيات الضارة التي تدفعهم إلى ارتكاب أخطاء قد تؤدي إلى نفور الأبناء من المنزل أو على الأقل بعضهم، وهو ما يدفعنا إلى الوقوف على بعض أسباب هذا النفور:
- المشكلات الزوجية: فنجد الأب والأم كل يوم في معركة ما يؤثر على الأبناء.
- إيذاء الأب للأم التي هي بالنسبة للأبناء مصدر الحنان والعطاء، فهم يحبونها بالفطرة، لذا يكره الأبناء الأب عند قسوته على الأم.
- التفرقة في المعاملة بين الأبناء تدفع الابن إلى الشعور بالكره أو النفور من والديه، وبخاصة إذا كان هذا التمييز يعود لأسباب خارجة عن إرادة الطفل المنبوذ، كما أن التمييز بين الأبناء يؤدي بالضرورة إلى توتر العلاقة بين الأخوة.
- للأسف بعض الآباء يستهزئون بأبنائهم أمام الغرباء أو حتى الأقارب، ويظنون أن هذا سيكون مجرد موقف عابر لن يتأثر به الطفل ولن تتأثر به شخصيته لكن في الحقيقة يُولّد نفورًا كبيرًا تجاه الوالدين.
- فساد أخلاق الوالدين، حيث يظنون أن أبناءهم في المراحل الأولى لا يدركون فيطلقون العبارات السيئة أو يتصرفون بانحراف أو بشكل سيئ أمام أبنائهم ما يجعلهم يشعرون بالتناقض بين نصائح آبائهم وبين أفعالهم، ومن ثمّ يشعرون بالنفور منهم، ويرفضون تنفيذ أوامرهم.
- الأب والأم اللذان يتسمان بالبخل العاطفي أو المادي يُفسدان مراحل الطفولة والشباب لدى الأبناء، فما يشعر به الأبناء من قسوة وبخل يجعلهم ينفرون من آبائهم.
- القسوة: فلا شك أن العنف اللفظي أو الجسدي ضد الأطفال يشوه العلاقة بينهم وبين آبائهم.
- عدم تقديم الدعم الكافي: يصبح الابن بحاجة ماسة للحصول على الدعم المادي والمعنوي من أبويه، وفي حالة غياب الدعم بأي شكل تبدأ العلاقة في الانحدار حتى تصل إلى مرحلة النفور.
- عدم التقدير: فسعي الآباء إلى الكمال يجعلهم يضاعفون المسؤولية والحمل على أبنائهم، ولا يقبلون بأي تقصير أو خطأ مهما كان بسيطًا ويمكن تجاوزه، وفي المقابل لا يبدون إعجابهم بإنجازات أبنائهم التي ربما تكون عظيمة في نظر الابن وهنا تتهيأ عقلية الطفل ونفسيته للنفور من أبويه.
- التعامل عن بعد مع الأبناء: خصوصًا من الأب مع الأبناء، نظرًا لاعتقاد الأب بأن دوره هو توفير ما يحتاجه الطفل في البيت من طعام وملابس(2).
مراحل نفور الأولاد
تختلف مراحل نفور الأبناء من المنزل ومن الوالدين من شخص إلى آخر، حسب طبيعة كل واحد وتربيته والبيئة التي نشأ ويعيش فيها، والتقاليد والعادات التي تربّى عليها، ومن أهم هذه المراحل:
- الصدمة: في هذه المرحلة تبدأ العلاقة بين الأب والابن في التوتر، ويلاحظ الأب تمرّد ابنه وعصيانه، وغالبًا ما تنتهي هذه المرحلة بالإنكار، حيث إن الأب يأبى أن يُقر بفشله في تربية هذا الابن، ويدفعه الشعور بالصدمة إلى تجاهل الأمر مبدئيًّا أو إنكاره تمامًا.
- الغضب: بعد تكرار الصدمات والمواقف التي تُؤكّد للأب نفور الابن منه، يبدأ الأب في الخروج من دائرة الإنكار والصدمة، ويظهر غضبه تجاه تصرفات ابنه، وتبدأ حدة العلاقة بينهما تزداد تدريجيًّا، وغالبًا ما تنتهي هذه المرحلة باليأس من الابن وفقدان الأمل في إصلاح ما فسد في العلاقة.
- المساومة: يبدأ الأب بعدما وضحت ملامح العلاقة بينه وبين ابنه بمساومة الابن على تلبية طلباته واحتياجاته مقابل تقديم الطاعة والانصياع للأوامر وتنفيذها، وربما يحدث أن الابن هو الذي يساوم والده على الطاعة، وأيًّا كان الطرف الذي يقدم المساومة ففي النهاية غالبًا ما تنتهي تلك المرحلة- أيضا- بالفشل، وزيادة الخلافات بين الطرفين ويعود الأب للشعور باليأس من جديد.
- الحزن والتسليم: بعدما بات الوضع بين الأب وابنه أمرًا واقعًا لا بُد منه ولا مفر، يلجأ الأب إلى الاعتراف وقبول ما وصلت إليه الأمور، لكن يلجأ الكثير من الآباء إلى محاولة تغيير هذا الوضع، فغالبًا ما تنتهي تلك المرحلة بالرغبة في البحث عن مخرج آمن من تلك الأزمة، ورغبة حقيقية في الإصلاح والتغيير.
- الإصلاح: هنا يبحث الأب ويبذل ما في وسعه لمعرفة الأسباب وكيف يمكن أن يتعامل مع تلك الأزمة حتى لا تتفاقم ويستحيل حلها، بعدما أتعبه طول الشقاق والخلاف بينه وبين ابنه، ويسعى جديًّا إلى احتضانه من جديد وتقليص المسافات بينهما(3).
ضبط انفعالات الآباء في مواجهة أخطاء الأبناء
يحرص كلّ أب وأم على إقامة أسرة مستقرة وسعيدة، خالية من نفور الأبناء من المنزل والتحدث والتفاعل مع الأسرة، وفي سبيل ذلك لا بُد من وضع ضوابط تحمي العلاقة بين الطرفين من الدخول في نفق مظلم، ومن هذه الضوابط:
- تضع الأم نصب عينيها حقيقة أن الأطفال ليس لهم أي ذنب فيما تعانيه من ضغوط تجعلها متوترة وعصبية.
- عدم إهانة الطفل أو ضربة ضربًا مبرحًا أو الغضب على الصغيرة والكبيرة أمامه.
- لا بُد من أن ندرك أن أطفالنا لا يزالون في مرحلة استكشاف العالم من حولهم، ومن الطبيعي في هذه المرحلة أن يتمتعوا بالنشاط والانطلاق ويكون لديهم الكثير من الفضول والرغبة في الحركة المستمرة والنشاط.
- تجهيز مكان مناسب لهم بعيدًا عن الأشياء القابلة للكسر أو مصادر الخطر على حياتهم كي يلعبوا بأمان ودون أن تكون أعصاب والديهم متوترة ومشدودة.
- إذا فشل الوالدان مرة أو اثنتين في التحكم في أعصابهم، يجب ألا ييأسوا أو يعتقدا أنهما فاشلان لكن يتدربا على الاتزان والهدوء.
- من المهم أن تتبين الأم الجوانب الإيجابية في أولادها وتثني عليهم حين يفعلون شيئًا صحيحًا أو تلاحظ أنهم تعلموا من خطأهم ولم يكرروه، وتخبر والد الطفل أمامه أنه تصرف بطريقة صحيحة وتتباهى به معه كي تشجعه على الاستمرار في السلوك الجيد(4).
- ومن الضروري أن يبتعد كل من الأب والأم عن التورط في شجارات عائلية أمام أعين أبنائهم.
- ولا بد من احترام المرحلة العمرية والبيئة الثقافية للأبناء، وتشجيعهم دائمًا على حب الوالدين، والفخر بما يقوم به الآباء مع أبنائهم.
- من المهم- أيضًا- توفير بيئة سعيدة لهم قدر المستطاع، ما يساعدهم على تجاوز الأزمات في لحظات الخلاف(5).
علاج نفور الأولاد من البيت
وبعد معرفة الآباء والأمهات أسباب نفور الأبناء من المنزل عليهم البحث عن طرق ووسائل هذه المشكلة، ومن ذلك:
- منح الأبناء مساحة خاصة بهم من الاستقلال والحرية، لكن تحت مراقبة الوالدين غير المباشرة.
- لا ينبغي على الوالدين تفسير غضب الأبناء على أنها كراهية لكن ربما موقف عابر.
- التزام الوالدان بتعاليم الإسلام، فالابن يحب من أبيه أن يكون صالحًا ديّنا، وتقيًا، ومتصدقًا، وعابدًا، فيستشعر معه معاني بر الوالدين، ومعاني القرب من الله سبحانه ويجعله قدوة له، فإذا كان الأب فاسقًا مجاهرًا بالآثام تصاغر مكانه في قلبه وانقلب الحب كرهًا، وجاء بابًا له في الهروب من البيت.
- إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع الأبناء، فهم يحتاجون دائمًا إلى التحدث عن مشكلاتهم التي يمرون بها مع آبائهم وأمهاتهم، ويحتاجون إلى الاستماع إليهم جيدًا، لذلك يمكن للآباء النزول إلى مستوى الأبناء بالفهم والحوار.
- العدل بين الأبناء، فقد أمرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- بالعدل بين الأبناء ومعهم, فقال: “اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم” (البخاري), وذلك لأن الابن لو استشعر الظلم من أبيه أو أمه نبت في قلبه تجاههما نبت البغضاء والكراهية، فالظلم يطرد المحبة من القلوب.
- إعطاء الابن الأهمية كإنسان وابن يستحق الحب والإحساس بالأمان وإن أخطأ التصرف.
- على الآباء اعتماد نهج المصارحة، لأنها تساعد الأبناء على تمييز الصواب من الخطأ(6).
- ومن الممكن أن يدعو الآباء أصدقاء أبنائهم إلى البيت بين فترة وفترة للتحدث والتعرف إليهم.
- إطلاق الألقاب الحسنة على الابن منذ صغره، وعدم السخرية أو الاستهزاء به أو بقدراته؛ حتى لا يتراكم لديه الكره والبغضاء، فيخرج إلى المجتمع شخصًا سلبيًا ومريضًا نفسيًا.
- ومن الممكن وضع صندوق مقترحات في البيت، يُمكن من خلاله أن يعبر الأبناء عمّا يريدون أو يرغبون به.
- تخصيص يوم في الأسبوع للعائلة للقيام بنشاطات مفيدة ومشتركة، كما يمكن تحديد يوم في الشهر لإسعاد شخص معين من الأسرة (7).
إن على الآباء والأمهات دورًا كبيرًا في احتواء الأبناء حتى لا ينفروا من البيت يومًا ما، وقد جاء في تحفة المولود لابن القيم- رحمه الله- قال: “قال بعض أهل العلم إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فإنه كما أن للأب على ابنه حقًا فللابن على أبيه حق، فكما قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8]، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
المصادر والمراجع:
- الشباب والانزواء عن الأهل نفور من الأباء وميل إلى الأصدقاء.. فمن يردم الهوى؟!10 يونيو 2010.
- 6 أسباب تؤدّي إلى نفور الطفل من والديه، 2020.
- أسباب نفور الأبناء من الآباء وكره الأهل: 2 يونيو 2020.
- إيمان البدري: كيف ينجح الآباء في ضبط انفعالاتهم في مواجهة أخطاء واستفزاز الأبناء؟، 18 ديسمبر 2021.
- لبابة حسن: أمور ينبغي على الآباء تذكرها عند مواجهتهم لكره أبنائهم لهم، 13 سبتمبر 2020.
- الدكتور عبدالرب نواب الدين آل نواب: مسؤولية الآباء تجاه الأولاد بعد سن البلوغ والرشد، 28 أبريل 2013.
- أفكار بسيطة وغير تقليدية لتقوية العلاقات ضمن أفراد الأسرة: 15 يوليو 2015.
- ابن القيم: كتاب تحفة المودود بأحكام المولود، ص 229.