تمُرُّ السنون، وتنقضي الأيام، وينجلي الليل، وتُطوَى الذكريات، غير أنّ ذكرى الصّالحين تظل نسيمًا للعليل، وبلسمًا للمريض، ومنهم المربي يوسف بن عيسى القناعي أحد رُوّاد النهضة التربوية العلمية في الكويت، الذي ساهم في نهضتها الأدبية وحملة الإصلاح الاجتماعي لفهم الدين الإسلامي بطريقة صحيحة في القرن العشرين.
يوسف بن عيسى القناعي.. النشأة والعلم
في حيّ القناعات بمنطقة الوسط، في مدينة الكويت حيث الطبيعة الخاصة، والحياة الثقافية المتأثرة بالثقافة العربية والإسلامية، وُلد الشيخ يوسف بن عيسى القناعي لأسرة عربية عريقة كان لها أثرها في تاريخ ونهضة الكويت، وذلك في سنة 1296هـ، الموافق 1878م.
حرص والده- كبقية الأُسر العربية الإسلامية- على تعليم ابنه علوم القرآن الكريم، فجَدّ الفتى وبدأ حفظ كتاب الله في سِن السّابعة على يد الملا دخيل الجسار، وتلقى مبادئ العلوم في كُتّاب عبد الوهاب بن يوسف الرفاعي، وبعد الانتهاء من حفظ القرآن وخَتم قراءته التحق بالمدارس الأهلية، إلا أنه ارتحل إلى الأحساء بالحجاز- كانت إحدى حواضر العلم الشرعي- لطلب العلم في سنة 1321هـ، الموافق 1903م، حيث تلقّى النحو والفقه والحديث، ما أَهّله لأن يُصبح من البارعين في مثل هذه العلوم.
ثم غادر الأحساء عائدًا إلى الكويت التي قضى فيها عامًا استكمل فيه بعض جوانبه العلمية قبل أن ينتقل إلى البصرة سنة 1323هـ، 1904م، ثم إلى مكة المكرمة، حيث نَهَلَ من معين عُلمائها في هذه الفترة، وفي ظل ذلك احترف مهنة التجارة التي ساعدته على التعامل مع الجميع داخل الكويت وخارجها، وزيادة خبراته في مجالات متعددة.
ولم يُوجد مشروع في وطن “القناعي” قائم على دعائم البر والخير إلا وله يد سبّاقه، ولا طريق من طُرُق الإحسان إلا وله فيه أثر ببذل من وافر ماله مثلما يبذل من راحته ووقته وكانت نوافحه في كل ذلك تفوق نوافح سواه من أبناء جلدته وما كان بأكثرهم مالاً ولا بأوسعهم ثروة إنما هو الشعور بالواجب.
يقول عن نفسه: “نشأت في الكويت كما نشأ غيري من أبنائها في محيط عمّه الجمود واستحكمت فيه البدع والخرافات التي سترت الحق وقلبت الحقائق وكان لمؤلفات الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومجلة المنار الغرّاء أكثر أثرًا في إنارة السبيل أمامي وإماطة الستار الذي أبصرت من خلفه الحق واضحًا فتغيرت بعده كل ما ألفته مما لا يتفق مع الدين في شيء”.
صاحب نهضة علمية تربوية
عاد الشيخ يوسف بن عيسى القناعي من مكة سنة 1325هـ، الموافق 1907م، وكله أمل في إصلاح التعليم بالكويت، وبالفعل حَمَلَ على عاتقه هذا الجانب فافتتح مدرسة خاصّة به عام 1907، واستمرت حتى عام 1940م بسوق المناخ في الكويت، لتعليم الأولاد القرآن الكريم والكتابة والحساب ومبادئ الدين.
لكنه كان يُفكر في التعليم النّظامي، فكانت البداية في المدرسة المباركية التي افتتحت في 22 ديسمبر 1911م وتُعدّ أول مدرسة نظامية في الكويت، وقد اختير الشيخ ليكون أول مدير لها.
لم تتوقّف طموحاته التربوية عند هذا الحد، فسعى إلى إنشاء المدرسة الأحمدية وتحقق الحلم وافتتحت في أواخر مايو 1921م، وهدف الشيخ إلى تطوير التعليم وإدخال مجالات حديثة من العلوم واللغات الأجنبية لم تكن موجودة في المدرسة المباركية، واختير ناظرًا لها.
وخاطب الميسورين، وطالب بتأسيس المدارس حتى ينتقل التعليم في الكويت من البدائي إلى النظامي، واستمر يتابع ذلك حتى شهدت الكويت نهضة علمية تربوية عالية فاختير ليكون أول مدير لمعارف الكويت.
ووجد الشيخ القناعي أنّ للإعلام أهمية عظيمة في التعليم والتربية، فدعا إلى قراءة الصحف وطباعتها وتعلُّم العلوم العصرية وزيادة الوعي المجتمعي والثقافي والسياسي عند الشعب، واختاره أمير البلاد مشرفًا على مجلة الكويت التي أنشأها عبد العزيز الرشيد في عام 1926م.
ولم تتوقف الجهود عند ذلك بل سعى الشيخ جاهدًا لإرسال الشباب الكويتي لاستكمال دراسته في بعثات علمية خارج الكويت، وتحققت مساعيه بإيفاد أول بعثة تعليمية إلى العراق سنة 1343هـ، الموافق 1924م، وحينما تأسس مجلس المعارف برئاسة الشيخ عبد الله الجابر الصباح اختير الشيخ يوسف مديرًا فخريًّا للتعليم.
وكان للشيخ يوسف مشاركة جيدة في كثير من الفنون، مثل: النحو والصرف والحديث والتفسير، وقد تخرج على يده في بعض هذه العلوم جملة من شباب الكويت، وقرأ عليه في النحو حاكم الكويت الشيخ سالم المبارك الصباح وابنه الشيخ عبد الله السالم الصباح وكان إمامًا في الفقه ويُعد من رجاله الذين يعتمد عليهم.
وامتدت حركة الشيخ الإصلاحية في مجال التربية لتشمل المرأة، فكان صاحب نظرات دقيقة في تعليم وتربية البنات، وكانت آراؤه عن المرأة ترجمة واقعية ورُؤى حقيقية نابعة من فَهم عميق واقتناع حقيقي وإيمان أكيد بأهمية تأهيل المرأة لممارسة دورها الإيجابي والفاعل في الأسرة والمجتمع.
فن الحوار
تميز الشيخ يوسف بن عيسى القناعي بعقلانية متميزة فريدة في الحوار والإقناع، لعلمه الواسع وسعة صدره الكبيرة التي اتسعت لكل الآراء حتى وصل به الحال إلى أن أُهدر دمه من بعض العلماء المتشددين، ورغم ذلك ظل يُحاور الجميع بالحُسنى حتى تربّع على قلوب الكويتيين بحسن أخلاقه وعمله الدؤوب للنهوض بالحركة الإصلاحية التربوية في الوطن حتى إن الشيخ سالم المبارك الصباح ارتبط بصداقة قوية معه وكان يزوره في مجلسه لتوافقهما في الفكر الديني.
وكان الشيخ يوسف معتدلا في آرائه فليس بالجامد الذي يعتزل كل جديد ولا بالمجدد المتطرف الذي يعادي القديم فجمع من الثقافتين الدينية والعصرية.
وقد كان من الداعين إلى فهم الإسلام الصحيح بمفهومه الشامل، لذا ما إن استمع من عبد العزيز المطوع وأخيه عبد الله عما سمعه من الشيخ البنا حتى وافق- ومعه ثلة من كرام الكويت- على تأسيس جمعية تعمل على تصحيح مفاهيم الإسلام للناس.
وفي أول رمضان 1371هـ الموافق 24 مايو 1952 شارك في تأسيس جمعية الإرشاد الإسلامي في الكويت، قبل أن يجري اختياره رئيسًا لها، كما اختير عبد العزيز علي المطوع مراقبًا عامًا، وذلك قبل تأسيس جمعية الإصلاح الاجتماعي في بداية الستينيات.
شذرات تربوية للقناعي
وبالبحث عن الرصيد التربوي الذي تركه يوسف بن عيسى القناعي مؤسسة النهضة العلمية التربوية في الكويت، وجدنا شذرات من ذهب، منها:
ما أورده القناعي عن خالد بن يحيى البرمكي الذي قال لولده: “اكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وأنفقوا من الدنيا وهي مقبلة فإن الإنفاق لا ينقص منها شيئا، والدنيا دول والمال عارية ولنا فيمن قبلنا أسوة ونحن لمن بعدنا عبرة”، ولأن تلك الكلمات لها وزنها التربوي نجد الكثير من المؤرخين قد دونوها في كتبهم ومنهم ابن كثير في البداية والنهاية، وابن الجوزي في المنتظم.
ولأنّ التكوين الثقافي والمهني للمعلم لا يكتمل إلا بدراسة الفكر التربوي والتزود من تجارب رواد التربية، نجد القناعي يقتبس من “العقاد” طرفا من تعاليم رواد التربية مثل كونفوشيوس فيقول: “وليس عند أهل الصين رسل ولا أنبياء، بل لهم معلمون ومربون، وأكبر معلم عندهم كونفوشيوس. ومن تعاليمه: الأمر بالصبر، والحلم، وبر الوالدين، والعطف على الأقربين والغرباء، وأن تقابل السيئة بالعدل، والحسنة بالإحسان. تركز فلسفة كونفوشيوس في كل تعاليمها على النواحي الروحية والأخلاقية بشكل عام”.
ويرى “القناعي” أنّ الأخلاق الكريمة هي دعامة النهضة ولكنه لا يقصد بالأخلاق ذلك المفهوم الضيق الذي يتضمن بضع خصال حميدة، فالأخلاق في رؤية القناعي أوسع من ذلك بكثير فهي تتفرع إلى أخلاق صناعية، وتجارية، واقتصادية، ومادية، وعلمية تشمل محاسن الدنيا ومحامد الدين وتقود نحو قلاع العزة والكرامة والسعادة.
ويؤكد مؤسسة نهضة الكويت التربوية والعلمية، أن اختيار المعلم يجب أن يخضع لأساس الأخلاق وعليه طالب إدارة المعارف في زمنه بأن تضم إليها المعلم الجيد وتختاره على ضوء شهادته وديانته أما الاقتصار على الشهادة فقط فهذا خطأ كبير.
وقد شدد على ضرورة اختيار المعلم الذي يكون محافظا على الصلاة، كي يكون قدوة حسنة لطلابه فالمعلم أكبر مؤثر في تربية الطفل، كما أوصى أهل الكويت بالتمسك بالدين والأخلاق الحسنة والحرص على النصيحة.
ومن الأمور التربوية التي ركّز عليها القناعي، قضية الرفق، فهو عنده يمثل أعظم ركن من أركان المطالب الإصلاحية، حيث قال: “فعلى كل داع إلى سبيل الله ومرشد ومعلم، أن يتأدب بآداب القرآن ويدعو إلى سبيل الله باللطف بلا شدة، ويدفع الحجة بالحجة بلا غضب وعنف، بل يكون كالوالد الشَفُوق على ولده، إذا كان يريد إرشاده، فإن قبل الإرشاد فذاك المراد، وإن لم يقبل فلا يغضب عليه أو يسبه أو يظهر له الغلظة، بل عليه ألا يكون آيسا من هدايته فلا يترك إرشاده في كل فرصة تسنح له”.
ويرى القناعي أن المسؤول عن التربية يُمكنه بناء شخصيات سوية قوية إذا ركز على هذه الأركان:
- حب العمل والمداومة عليه وتجويده.
- الترفع عن مغريات المادة، وألا تكون مصلحة الشخص النفسية مقدمة على مصلحة المجموع.
- الصراحة في القول، لأنها دليل على عزة النفس والاستقامة وأما المراوغة والتسويف وخلف الوعد فهي من ضعف الخلق ونقص الشجاعة.
- الثبات على المبدأ الصالح بلا تعصب، فتجد من الناس من إذا رأى الطريق الذي مبدؤه حق ثبت عليه لا يتزحزح عنه ومنهم الذي لا مبدأ له يدور مع الريح حيث دارت.
- احترام النفس، فالإنسان الذي لا يحترم نفسه لا يحترمه الناس فعلى الإنسان تجنب كل ما من شأنه أن يحط من كرامته وعليه أن يظهر بالوقار والرصانة.
- الصبر على خشونة الحياة وتجنب الانغماس في النعومة والرفاهية.
- كبح الغضب وتجنبه كما فعل النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع الأَعْرَابِيّ الَّذِي جَبَذَهُ حتى أثر الرداء في جسده من شدة الجبذ فقال للرسول: أعطني من مال الله؛ فضحك النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأمر له بالمال.
وعن رحيله، ففي ظهر يوم الخميس 5 جمادى الآخرة 1393هـ الموافق 5 من يوليو سنة 1973م، وعن عُمر ناهز 95 عامًا فجعت الكويت بوفاة الشيخ القناعي بعد أن قدم الكثير من صحته ووقته وماله من أجل وطنه وأمته، وقد خرجت الكويت عن بكرة أبيها تُشيّعه إلى مثواه الأخير.
مصادر:
- بدر محمد ملك، لطيفة حسين الكندري: الفكر التربوي عند معلم الكويت الأول الشيخ القناعي، المجلة التربوية (الكويت) العدد 76، المجلد 19، شعبان 1426هـ- سبتمبر 2005م.
- نجاة عبد القادر الجاسم: الشيخ يوسف بن عيسى القناعي: دوره في الحياة الاجتماعية والسياسية في الكويت، شركة كاظمة للنشر والتوزيع بالكويت, 1989م.
- أضخم موكب شهدته الكويت لتشييع جثمان الشيخ يوسف القناعي: مجلة الرسالة، العدد 647، بتاريخ 8/ 7/ 1973م.
- عبدالمحسن الخرافي: مربون من بلدي، الشامية للنشر والتوزيع، الكويت، 1998م.
- سيف مرزوق الشملان: من تاريخ الكويت، دار ذات السلاسل، الكويت، 1986.
- القناعي: الملتقطات، ص 291.