ابنتي لا تستطيع الاستمرار والمداومة في أي شيء في أمور حياتها سواء دراسة أو عمل، على الرغم من أنها وهي صغيرة كانت مميزة جدا في أي عمل تقوم به، وكانت متفوقة حتى المرحلة الثانوية، حيث لم تنجح فيها بتفوق، ودخلت كلية كانت أقل من طموحها، وأكملت فيها ولكن دون حضور محاضرات أو حرص على التفوق، ومن حينها وهي تتقبل فكرة أنها لا تستطيع إنجاز أي نجاح، وكلما بدأت أمرًا ما سواء كان عملًا أو تعليمًا أو قيادة فريق فإنها تعتذر ولا تكمل؛ ولا أدري كيف أتعامل مع هذه المشكلة!
الإجابة:
السائلة الكريمة، إن فقدان الشغف أو الخوف من الفشل، قد يكون هو الوصف المناسب لما تمر به ابنتك، لا بأس، فالأمر يحدث للكثيرين لأسباب مختلفة، وتجاوز هذه الحالة أمر يسير بإذن الله، وذلك بفهم الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة وطرق تجاوزها.
مع الأسف ارتبط في عالمنا العربي مقياس واحد للتفوق، وتم حصره في اجتياز الثانوية العامة بنجاح مبهر، فمن حقق المراد من تفوق ونجاح، فاز وعلا، ومن أخفق ولم يتفوق بمعيارهم فقد خسر كثيرًا.
وهذا مقياس خاطئ مدمر، لا يضع في الاعتبار الجوانب المختلفة من المهارات المختلفة التي يتميز بها كل شخص، فالتفوق الدراسي أحدها، وتظل مهارات كامنة لم تكتشف بعد في شخص كل منا، يحيا بعضنا وقد عرفها واستعملها في إعمار الكون، ويموت البعض ولم يصل إلى تلك المهارات.
السائلة الكريمة..
قد قصرت ابنتك مهاراتها في التفوق الدراسي، وأعلت سقف طموحاتها بأن الفلَاح هو الحصول على مجموع معين، ولما حدث وحازت نتيجة غير متوقعة، وقعت في دائرة الإحباط، والحل ما زال في يديها، حتى وإن تجاوزت مرحلة الحياة الجامعية، فإذا أعادت ترتيب أولوياتها وبحثت في نفسها عمّا يحركها ويعيد إليها الدافعية والأمل، ووجدت أن التفوق الدراسي ما زال يداعب أفكارها، فتستطيع بإذن الله وتوفيقه اختيار محراب جديد، تدشن فيه آمالها في التفوق الدراسي، وتبعد به عن آلام إخفاقاتها السابقة.
[أسمعك تسألين] ولكن كيف والعجلة لا تدور في كل محراب تطرقه؟َ!إليك بعض النقاط التي تعينها لتخطي حاجز عدم تفوقها في الثانوية العامة أو فيما يليها من محطات:
- اعلمي أيتها المربية الفاضلة أن الشغف- كما يسمونه- ليس ثابتًا، الشغف متغير، فلعل في الماضي كان شغفها التفوق الدراسي، والآن اهتماماتها قد تذهب بها لتحقيق مهارات رياضية، أو تنفيذ أعمال فنية، أو إجادة الفنون المطبخية.
- وإليك بعض النصائح التي قد تعينها على تجاوز هذه الحالة من عدم الاستمرارية في شيء:
اقترحي عليها أن تمسك ورقة وقلم وتسأل نفسها: ما الشيء الذي كانت تجيده في الصغر؟
وما الشئ الذي كان يسعدها؟ (القراءة/الكتابة/التأمل في الكون/التأمل في أحوال الخلق …إلخ) بهذه الخطوة قد تقف على شيء يلهمها التحرك من خلال بداية جديدة تبعدها عن مشاعر الإخفاق وعدم المداومة في أي مجال تطرقه.
ومن الأشياء التي تعينها في تحديد مهارتها ما يقوله الناس عنها، فلتراجع ما تسمعه عن نفسها من الناس ولتكتب ما تستدعيه ذاكرتها، كأن يشكروا في تنسيق ملابسها على سبيل المثال فلعل ذلك مفتاحًا لها للدخول في عالم الأزياء، أو أن يشكروا في أنها تحسن الاستماع إلى مشكلات الآخرين، فيكون ذلك بوابة للتعلم عن علم النفس ومساعدة الآخرين، وهكذا.
وكلما كان اختيارها لمجال فيه مرضاة الله ونفع الآخرين، كلما كان أرجى لتحصيل مثوبة دنيوية ومثوبة أخروية، ومن جميل ما في ديننا مسألة تحويل العادات إلى عبادات، وذلك بتجديد نيتنا فيما نفعل، ولماذا نفعله؟ وماذا نبتغي من ورائه؟
فتجديد نيتنا فيما نفعل يعين على تحقيق الأهداف، وتحمل العثرات أثناء رحلة الحياة، ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ، ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ.” (رواه البخاري ومسلم).
- ولنتذكر، أن الله استخلفنا في الأرض نبني ونعمر وسنسأل عن عمرنا فيما أفنيناه ففي حديث الترمذي: “لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ”.
وليكن هذا السؤال محركًا ودافعًا، بم ستجيب ربها؟، استخلفتني يارب في كذا، وهذا جهدي فيه قدر ما أستطيع.
نحن في رحلة الحياة، دائما ما نبحث عن مراد الله منا، والإجابة في حق كل واحد منا ليست واحدة على طول الخط، فيستخلف الله كل منا بشكل مختلف في مراحل حياتنا المختلفة، المهم أن نسعى نحو مراده منا ولا نتعطل كثيرًا، نسأله سبحانه أن يسددنا وينفع بنا فيما نفهم عن أنفسنا أنّا نحسن في مجال كذا أو كذا.. ولتعلم أنا محاسبون على السعي “وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى” (النجم).
الجزاء الأوفى من لدن رب كريم ودود واسع الفضل والكرم، خير دافع لنا أن ننجز في الأعمال ابتغاء مرضاة الله وتحصيل المثوبة والأجر.
- وبعد أن حددت مهاراتها، تكتب خطوات وأهداف واضحة وبسيطة، وتقسمها على مراحل حتى يسهل تنفيذها، ولا تعلي سقف طموحاتها في إنجاز المهام حتى لا تعود إلى دائرة الإحباط.
- وذكريها ألا تستسلم للانتقادات السلبية، فالخطأ صديق النجاح، والمخترعون وصلوا إلى اختراعاتهم بعد آلاف الأخطاء، فقط لأن هدفهم واضح، ولم يثنيهم عنه نقد أو تيئيس من مُحْبِط.
- ونذكرها بأن توقف المقارنات جميعها حتى لا تعود لإخفاقات الماضي، إلا لو كانت هذه المقارنة تصب في مصلحتها بأنها بدأت تتجاوز مسألة عدم المداومة في أي عمل.
- أما مقارنة نفسها بزملاء العمل أو ممن سبقوها في محرابها المختار فتوقفها تمامًا إلا أن تكون في مجال التعلم من أخطاء من سبقوها، فهذا مما يختصر الكثير في الرحلة.
- انصحيها بأن تختار من يشاركها أهدافها الجديدة ولو على مستوى مشاركة اهتماماتها، وليست المشاركة بمعنى المساعدة، فهذا مما يشحن طاقتها، ولنا في سيدنا موسى وأخيه هارون الأسوة والقدوة حينما طلب سيدنا موسى من ربه أن يصحبه أخوه: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} (طه).
وبعد أن اتضحت الرؤية وحددت أهدافها المرحلية وشاركت غيرها اهتماماتها وجددت النية، مستعينة بالله في كل خطوة، نذكرها ألا تنس تحفيز نفسها، وذلك يكون بالآتي:
- الاحتفاء بالإنجازات ولو كانت صغيرة.
- ألا تختصر السعادة في محطة الوصول، فلتجعلها رفيقة لها أثناء الرحلة، فنظارة السعادة نحول بها الإخفاقات إلى دروس مستقبلية، ونستطيع أن نحول بها المواقف السلبية بالتفكير الإيجابي إلى نقاط قوة.. فنحن بشر لنا طاقة ووسع محدود: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا”، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فلتستعن بالله ولا تجزع.
وبعد أن استطردنا في الاقتراحات والحلول السابقة، نؤكد أهمية مراجعة الحالة الصحية لها، فقد تعاني من نقص بعض الفيتامينات التي تغير من نشاطها وحماسها ودافعيتها، مثل نقص فيتامين (د) الذي يعاني من نقصه الكثيرون ويؤثر على فاعليتهم ونشاطهم الذهني والبدني، ويختلف الأمر كثيرًا بعد التحليل وتعويض النقص وذلك تحت إشراف الطبيب.
كما أنه من الضروري التأكد من الحالة النفسية، فقد تحتاج الابنة إلى الذهاب لطبيب نفسي أو استشاري نفسي يساعدها في وضع يدها على أسباب نقص الدافعية لديها، وتجاوز هذه الحالة، ولا يشترط أن يكون العلاج دواءً، فأحيانا نؤخر الذهاب إلى الطبيب النفسي اعتراضًا على فكرة أخذ الدواء، فلا يلجأ الطبيب إلى الدواء إلا إذا تأكد لديه احتياج المريض لذلك، ويساعد الدواء بالفعل في أحيان كثيرة، ثم يوقفه الطبيب بالتدريج، فلا يعني أخذ الدواء، أنها ستستمر عليه مدى الحياة.
وهذه إحدى المغالطات التي تؤخر ذهابنا للطبيب فلماذا لا نطرق كل الأبواب طلبًا للشفاء، خصوصا أن ابنتك استمرت معها هذه الحالة وقتًا طويلًا وعطلتها عن الاستمتاع بمرحلتها الجامعية، وما زالت تعطلها، نسأل الله لابنتك العافية، وأن تكون خيرا مما هي عليه، وخيرا مما كانت عليه، وأن ينفع الله بها ويستخدمها.