حثّ الإسلام على أن يكون باطن المُسلم كظاهره، وقوله مثل فعله، دون تناقض أو انفصام في المواقف، لذلك حذّر من ازدواجية السلوك ورفضها رفضا تامًّا، لِمَا لها من آثار سيئة حاضرًا ومستقبلًا على الفرد والمجتمع، خصوصًا في ظل وقت يحتاج فيه المسلمون إلى جيلٍ واعٍ من الشباب ينهض بالأمة للوصول بها إلى المكانة اللائقة بها.
ومن خلال هذا الموضوع نُحدد أسباب هذه المشكلة، وآثارها على الفرد والمجتمع، وموقف الإسلام منها، وطرق علاجها من منظور تربوي إسلامي، بالتركيز على وسائط فاعلة في علاج الظاهرة وهي: الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والإعلام.
مفهوم ازدواجية السلوك
ويمكن أن نفهم معنى ازدواجية السلوك أو التناقض في المواقف من خلال تعريف ابن منظور للازدواجية في لسان العرب، حيث يقول إن المزاوجة والازدواج بمعنى واحد وهو ازدواج الكلام.
والمقصود بالازدواجية ليس الحالة السّوية التي تتكامل فيها العناصر المزدوجة في الإنسان، لكنه الانحراف والبعد كثيرًا عن الوسطية والتوازن الحقيقي الذي وضعه المنهج الإسلامي (قرآنًا وسنة) للإنسان في تعامله مع خالقه ومع الكون والإنسان والحياة.
وهذا المصطلح جديد يُقْصَدُ به دراسة المفارقات والتناقضات السّلوكية في أقوال وأعمال الناس الذين يقولون القول، أو يعملون العمل، ثم يقولون، ويعملون نقيضه دون أن يكون لهم وازع ديني، ولا سلوك اجتماعي يردعهم عن ذلك التَّلوُّن.
والتَّلوُّن والخداع في السلوك الإنساني هو الذي ذمّ الله به بعض المؤمنين الذين كانت سلوكياتهم تناقض أقوالهم، فقال- عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف: ٢-٣].
وأشار ابن القيم- رحمه الله- إلى هذا المصطلح حيث أكد أنك ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بكلمات تسخط الله تعالى وينزل بالواحدة منها إلى أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورعٍ عن الفواحش والظلم والمنكرات ولكن لسانه يفري في أعراض الناس الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول.
أسباب ازدواجية السلوك
والنّاظر في ممارسات الناس اليومية يمكنه بسهولة حصر أسباب ازدواجية السلوك والتناقض بين الفعل والقول، ومنها:
أولًا: عدم الالتزام بآداب الإسلام، فالمسلم يُفترض فيه أن كل حركاته وسكناته مرتبطة بالدين، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163]، لذلك فإن أي خلل في سلوك المسلم هو نتيجة طبيعية لعدم تمسكه بالدين.
ثانيًا: غياب القدوة الصالحة، فلا يكاد يخلو كتاب من كتب التربية الإسلامية أو الثقافة الإسلامية، إلاّ وفيه إشارة من قريب أو من بعيد لدور القدوة الصالحة الفاعل في حياة الناس، ورغم ذلك لا نزال نعاني من غيابها.
ولما كانت القدوة من الأساليب المهمة في التربية، فقد ركز عليها الإسلام وجعل الله تعالى نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الحسنة، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخرَ وَذَكرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
ثالثًا: المؤثرات الخارجية، وهي التي أبعدت المسلمين عن آداب الدين الإسلامي، ورسخت فيهم حب التطلع والتبعية للمبادئ والقيم الأجنبية والعمل بها واعتبارها مغنمًا سلوكيًّا، ومن أبرزها ترجمة العلوم والمعارف الغربية بما فيها من مفاهيم وتصورات خاطئة، والاستناد إلى وسائل الإعلام الغربية والعربية المستغربة وما تبثه من برامج تحوي أفكارًا ومبادئ وقيمًا غربية لا تتفق مع الإسلام.
رابعًا: اتباع الهوى والشهوة، وهو من أسباب ورود المهالك، وتصدع الأمة، وقد عبّر عن هذا المعنى حمزة الجيلاني في كتابه الإشراق الإسلامي، إذ أوضح أن اتباع الأهواء والشهوات يترتب عليه انتشار الفساد وارتكاب المنكرات، ومتى فسدت النفوس البشرية فسدت الأمزجة ولؤمَت الطباع وخبثت العادات وانحلت القيم والأخلاق وبذلك تنحط الأمة.
وقال الماوردي عن الهوى إنه “عن الخير صاد، وللعقل مضاد، لأنه ينتج من الأخلاق قبائِحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكًا ومدخل الشر مسلوكًا”، وعن الشهوة قال، إنها “من دواعي الهوى، ونقل عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه قوله-: إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم، فإن عاجلها ذميم، وآجالها وخيم، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والإرهاب، فسوّفها بالتّأميل والإرغاب، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعتا على النفس زكت لهما وانقادت”.
خامسًا: التسويف وطول الأمل، وهو من الأسباب التي توقع المسلم في التناقض والازدواجية، لكن المسلم الواعي المُدرك يعرف أنه لا يضمن أن يعيش غدًا، بل لا يضمن لنفسه أن يعيش ثانية أو جزءًا منها، لذلك فهو محاسب لنفسه، متيقظ لسلوكه، مراقب الله تعالى في كل ذلك وعليه فلا يترك لنفسه العنان بالتسويف والآمال ويقع في المحظور.
وقد رُوي أن الخليفة المأمون قرأ قوله تعالى: ﴿فلا تَعجلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ [مريم: 84]، وكان عنده جماعة من الفقهاء، فأشار إلى ابن السماك أن يعظه فقال: “إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد”.
آثار الازدواجية على الفرد والمجتمع
ولا شكّ أن ازدواجية السلوك والتناقض حالة غير صحية، وعليها يترتب آثار سلبية على الفرد والمجتمع، من ذلك:
أولًا: على الفرد:
- الاستغلال من أصحاب النفوس الضعيفة: فشياطين الجن والإنس تتربص بالإنسان الدوائر، وقد يكون شياطين الأنس أكثر خطرا، ففي كل زمان ومكان هناك أعداءٌ للإسلام وأهله.
- عدم الاهتمام بالوقت وإضاعته فيما لا فائدة منه: فالإنسان مزدوج السلوك يضيّع أوقاته هباءً منثورًا فتجده يقضي كل أوقاته في ملهيات قد يصل بعضها إلى درجة التحريم.
ثانيًا: على المجتمع:
- تبدد الأخلاق: فالأخلاق ترتبط بقواعد الدين الإسلامي، لذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”، والسُّلوك المزدوج ناتج عن خلل في تطبيق قواعد الإسلام.
- التخلف عن الأمم المتقدمة: فالتناقض والسلوك المعاكس لا يتحقق معه عمل مثمر أو ابتكار أو اختراع أو تجديد، بل تصبح هذه الأمة وأفرادها عالة على غيرها من الأمم.
- اهتزاز الصف المؤمن المرصوص: يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4]، والذي يعطل هذه القاعدة ويخلخلها هو مخالفة القول للفعل.
- تفشي الغش والفساد الإداري: فسلوك التناقض يؤدي إلى غش وفساد إداري يزلزلان موازين المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا.
علاج التناقض في السلوك
ومشكلة ازدواجية السلوك والتناقض بين القول والفعل، يُمكن أن تعالج من خلال؛ الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والإعلام، وذلك على النحو التالي:
أولًا: الأُسرة، فسلوكيات الطفل تتكون وَفق ما يغرسه الوالدان في السنين الأولى من عمره، ولا شك أن دور الوالدين في توجيه وإرشاد أولادهم يعد من الواجبات عليهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ ومسؤول في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته” (البخاري).
ثانيًا: المدرسة، حيث ينتقل الطفل إليها ويمضي فيها سنين طويلة تصل إلى اثني عشر عامًا، وخلال هذه الفترة يتلقّى التوجيهات والإرشادات في إطار المعتقدات والمبادئ والقيم والأفكار، ويتأثر بالسلوكيات التي تصدر من المعلمين، لذلك لا بد من التركيز على دور المدرسة في حل هذه المشكلة عن طريق المعلم والكتاب المدرسي.
فالبنسبة للمعلم، اهتم السلف والخلف بوضع صفات أساسية له، ويجب على الجهات المعنية بتعيين المعلمين الاهتمام بها، واستبعاد أي معلم لا تتوافر فيه، وفي مقدمة هذه الصفات تقوى الله تعالى، وحُسن الأخلاق، والصدق، والأمانة، وسعة العلم، والثقافة الإسلامية؛ وألا يصدر منه مذمة لزملائه، أو ازدراء لأحدٍ من الناس، أو تعاطٍ للتدخين، أو سماع للأغاني الساقطة، أو ضياع للأوقات فيما لا فائدة منه، أو عدم الاهتمام بمادته وإعطائها حقها.
وبالنسبة للكتاب المدرسي، فينبغي أن يركز على غرس عقيدة التوحيد في نفوس الناشئة بالوسائل والطرق الملائمة، وبيان مظاهرها في شتى جوانب الحياة، والاهتمام بالثقافة الإسلامية وبيان أصالتها وزيف الثقافة الغربية المعاصرة.
ولا بد أن يركز الكتاب على شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة والتابعين ومواقفهم مواقفهم وسلوكياتهم المتوازنة، كما يهتم بالجانب التطبيقي العملي، وأن يتوافق مع أصول الإسلام وقواعده العامة.
ثالثًا: المسجد، فهو أحد الروافد الأساسية للتوجيه والإرشاد في المجتمع المسلم، بل كان في صدر الإسلام هو المنطلق لكل شؤون الدولة، فلم يكن مكانًا لأداء الصلوات الخمس فحسب، بل مركزًا للحكم، والإدارة، والسياسة، والاقتصاد، وقيادة الجيوش المجاهدة لإعلاء كلمة لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، ومركزًا للإشعاع العلمي والمعرفي.
ومن خلال المسجد يمكن علاج تناقض السلوك، باختيار الأئمة والمؤذنين ممن لديهم علم وإلمام بالعلوم الشرعية، ومتصفون بصفات الصلاح والتقوى والاستقامة في السلوك، وتكثيف الأنشطة الدعوية، مثل: الدروس، والمحاضرات، والندوات، والكلمات الوعظية …الخ.
رابعًا: الإعلام، وهو من أهم وأخطر الوسائل المؤثرة في السلوك، ويستخدم في كثير من الأحيان لبث المعتقدات والأفكار لتكون سلوكًا يمثله الأفراد في شؤون حياتهم.
ولما كان الإعلام بهذه الصورة، كان لا بد من وضع خطوات يمكن من خلالها جعله أداة ناجعة في القضاء على تناقض السلوك، ومن تلك الخطوات:
- تذكير القائمين على أجهزة الإعلام بوسائله المختلفة بضرورة تمثل القيم الإسلامية في ما ينشرون، والابتعاد عن ما لا يجوز.
- الاهتمام بعنصري التنويع والتشويق في عرض البرامج الإعلامية؛ لجذب المشاهدين والبعد عن البرامج ذات الأسلوب الرتيب.
- محاولة الاستفادة الجادة من البرامج الإعلامية الهادفة وعدم التقوقع على الذات.
- اختيار رجال الإعلام ممن عرفوا بصلاحهم وتقواهم وفقههم، ليكونوا مشعل هداية وخير لأمتهم بما يبثونه من برامج إعلامية هادفة.
- أن يلتزم هؤلاء المختارون لإدارة الأجهزة الإعلامية بالتوسط والاعتدال في إعداد وعرض البرامج الإعلامية، بعيدًا عن الإفراط أو التفريط.
إن ازدواجية السلوك والتناقض في القول والفعل يُمكن أن يتسبب في انهيار الفرد والمجتمع والأمة، والعكس بالعكس، فإن القول والسلوك الحسن يترك أثرًا عظيمًا في النفس، وفي النفس المؤمنة خاصة، ذلك لأنها تتلقى الكلام الطيب والقول الحسن بصدر سليم، وقلب مفتوح، وتصديق أكيد، وظن حسن، أما إذا خالف القول الفعل فإن الخديعة كبيرة، والإثم عظيم وكان مقت الله لذلك مقتا كبيرًا.
المصادر والمراجع:
- الدكتور عبد الرحمن بن سعيد الحازمي: دراسة بعنوان: “طرق علاج ازدواجية السلوك من منظور التربية الإسلامية”.
- ابن منظور: لسان العرب، 2/293.
- ابن القيم: الجواب الكافي، ص 171.
- حمزة الجيلاني: الإشراق الإسلامي، 2/276.
- الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص 33، 36.
- الشنقيطي: أضواء البيان، 4/295.
- النحوي: منهج المؤمن بين العلم والتطبيق، ص 138.