تنطلق الثقافة الإسلامية من احترام التنوع والتعايش مع الحضارات المختلفة على مر العصور، وهو ما يكشف سر التربية على التسامح في عصر العولمة من منظور إسلامي بصرف النّظر عن الظروف والمتغيرات، لأن نقيض ذلك- وهو التعصب- يُهدد المجتمعات بالتمزق والتعادي، بل قد يُفضي إلى اشتعال الحروب.
ولا شك أنّ التّسامح لا يعني التّنازل أو التساهل، بل هو اتجاه إيجابي يدعمه الإقرار بحقوق الإنسان والحريات الأساسية للآخرين، وممارسة الفرد سلوكيات تجعله قادرًا على العَيش مع الآخرين في سلام، وهو ما يحتاج إليه عالمنا اليوم أكثر من أي وقت مَضَى؛ نظرًا لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يومًا بعد يومٍ بفضل ثورة المعلومات والاتصالات التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب.
أهمية التربية على التسامح ومفهومها
وتتجلى أهمية التربية على التسامح من منظور إسلامي، في الوقت الذي تنتشر فيه مفاهيم غربية ترسخ منهج معاداة المسلمين وتُروّج لمفاهيم صراع الحضارات، والبحث عن عدوٍّ مسلم، والمسلم الإرهابي، وغيرها.
وميدان التربية الإسلامية تُطبّق فيه القيم والمبادئ الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة بالدرجة الأولى، ومن أعمال وأفكار المربين المسلمين بعد ذلك، وعند تناول مسألة تعليم التسامح من منظور تربوي إسلامي، فإن هذا التناول ينظر إلى التسامح ضمن منظومة القيم الإسلامية الشاملة، فمن خلال هذه المنظومة القيمية والأخلاقية، نرى أن المطلوب من المسلم دائمًا وأبدًا وفي كل أحواله وأوضاعه أن يلتزم بمقتضيات التسامح ومتطلبات العدالة.
والتسامح هو صورة التكيف التي بمقتضاها تميل الجماعات المتعارضة إلى الانسجام المتبادل، وتحاشي الصراع من أجل التوصل إلى حل عملي، في ظل مبدأ عدم التدخل في معتقدات وتصرفات الآخرين التي لا يحبذها المرء”.
التربية على التسامح.. رؤية إسلامية
وبلا ريب فإن القرآن الكريم أعظم مصدر لثقافة التربية على التسامح في الإسلام. يقول الحق- سبحانه وتعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 124]، ويقول: {وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 125]، ويقول: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، ويقول: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]،
ويقول- عز وجل-: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، ويقول: {ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].
فهذه الآيات من الذكر والحكيم وغيرها الكثر، تؤكد أن أشهر القوانين المهمةُ التي كان لها الدور الأكبر والطائل في تقدّم المسلمين في مختلف الميادين، هو قانون “اللين والتسامح” الذي أكدت عليه الآيات المباركة، ففي القرآن الكريم هناك أكثر من آية تدعو إلى اللين والسلم ونبذ العنف والبطش.
وتتشارك السُّنة النّبويّة مع ما جاءت وحَمَلَتْهُ لفظة “التسامح” لُغَوِيًّا في القرآن الكريم، فهو التساهل والمساهلة في كل جوانب الحياة لذلك جاء قول الرسول الأكرم محمدٌ- صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدًا سَمْحًا إذا بَاعَ وإذا اشترَى وإذا اقتضَى» (البخاري).
إن سيرة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته كانوا أبرز تَجَلٍّ ومِصْدَاقٍ لسلوك منهجية السلام والتسامح في الأمة؛ فالرسول الأكرم قائد الحركة السلمية اللاعنفية الأولى في تاريخ العالم.
وهو- صلى الله عليه وسلم- حامل راية السِّلْمِ والسَّلَام؛ لأنه يحمل للبشرية النور والهداية والخير والرشاد والرحمة والرأفة، فيقول- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة»، ويتحدث القرآن الكريم عن رسالته فيقول: {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، فإن الرحمة والسِّلْمِ والسلام جاء بها الإسلام للناس كافة. وكثرةُ لفظِ وتَكرَارِ السَّلام على هذا النحوِ مع إِحَاطَتِهِ بالجوِّ الدينيّ النفسيّ من شأنه أن يوقظَ الحواس جميعَهَا ويُوَجِّهَ الأفكار والأنظار إلى مبدأ التسامح العظيم.
منطق التربية الإسلامية في تعليم التسامح
ينظر الإسلام إلى فكرة التربية على التسامح واللين، باعتبار ذلك قيمة عُلْيَا من قيم الحياة والمجتمع، وإن في تحقيق هذه القيمة وإكسابها للنشء والشباب هو في الوقت ذاته تحقيق للاستخلاف، ووسيلة المسلم إلى تعمير الحياة وإسعادها.
فالتسامح تتمثل أهميته التربوية في كونه ذا بعد وجودي، أي ضروري لاستمرار الحياة، وتدفق الحيوية المجتمعية. ولقد اقتضت سُنة الوجود أن يتواجد الناس جماعات بشرية، وهي وإن اتفقت فيما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمع والحرص على البقاء، والرغبة في التمكن من مقومات الحياة، والسعي في إقامة التمدن والعمران، فتلك سنة الله في خلقه.
ولقد أوضح القرآن الكريم تلك الحقيقة الوجودية في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: آية 13).
وهكذا نلاحظ أن الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومدنيات إنما هو التعارف لا التناكر، والتعايش لا الاقتتال، والتعاون لا التطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحًا أن أهمية التسامح تتمثل في كونه ضروريًّا ضرورة الوجود نفسه.
وغاية تعليم التسامح أن يستقر لدى المسلم اعتقاد وسلوك وممارسة، بأنه إذا كان له وجود، فإن للآخرين وجود كذلك، وإذا كان لهؤلاء دين له حرمته فلأولئك دين له الحرمة نفسها، وإذا كان لهؤلاء خصوصية ثقافية لا ترضى الانتهاك، فلأولئك خصوصية ثقافية لا تقبل المساس أبدًا.
طرق تعليم التسامح
ومهمة التربية على التسامح واللين تحتاج إلى طرق تُتّبع في التعليم ومضامين يمكن الاستفادة منها في المناهج التربوية، على النحو التالي:
- النصوص والقصص الواردة في الكتب المدرسية: وهو من الأساليب التي تجذب انتباه المتعلمين.
- الأنشطة الصفية واللاصفية للمناهج: التي تسهم في غرس قيم السلام والتسامح والحوار في نفوس المتعلمين، وتتمثل بعض هذه الأنشطة في العمل الجماعي، حيث تُعد الأشغال الجماعية داخل الصف إحدى الأساليب التي تركز على مشاركة التلاميذ.
وفيما يلي المضامين والمرجعيات التي يمكن أن تشكل مادة مهمة في محتوى مناهج التربية الإسلامية لنشر قيم السلام والتسامح التي دعا إليها الإسلام:
- تعاليم التسامح والعيش المشترك بين الأديان: قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 63] وغيرها من الآيات التي تحض على التسامح. وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا مَن ظلمَ مُعاهدًا، أوِ انتقصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئًا بغَيرِ طيبِ نفسٍ، فأَنا حَجيجُهُ يومَ القيامةِ» (صحيح أبي داود).
- وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تَحَسَّي سُمًّا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا” (البخاري ومسلم).
- المرأة والرجل متساويان في الكرامة والعدل: قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «النساء شقائق الرجال» (صحيح أبي داود).
- احترام الحق في الديانة: قال تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقال كذلك: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
- احترام حرية الإنسان وعدم استعباده أو قهره أو استغلاله: قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا».
- الحوار: قال تعالى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وقال تعالى: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46). وقال كذلك: {وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
- تعليم العدل والمساواة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقال أيضًا: {وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [المائدة: 58]. وقال كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
- وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا أيُّها النَّاسُ ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لِعَربيٍّ على أعجميٍّ ولا لعَجميٍّ على عربِيٍّ، ولا لِأحمرَ على أسودَ ولا لِأسودَ على أحمرَ، إلاَّ بالتَّقوى»، وقال أيضًا: «من بطَّأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسَبُه».
- الشورى: قال تعالي: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38). وقال أيضًا: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].
- نبذ العنف والتطرف: قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]. وقال أيضًا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. ويقول كذلك: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
- الأخوة والتعاون والتضامن: قال تعالى: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10). وقال أيضًا: {ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: 12).
- وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وقال أيضًا: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. وقال أيضًا: “لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا”.
المصادر والمراجع:
- الدكتورة فخرية بنت محمد إسماعيل خوج، أستاذ التربية الإسلامية، كلية الآداب، جامعة أم القرى: دراسة بعنوان: “ضرورات التربية على التسامح في عصر العولمة.. منظور تربوي إسلامي“.
- محمد فؤاد الحوامدة وآخرون: “دور المناهج التربوية في محاربة الإرهاب من خلال تعليم ثقافة التسامح”، بحث مقدم إلى مؤتمر “الإرهاب في العصر الرقمي”، جامعة الحسين بن طلال، الأردن، 2008م.
- أحمد على كنعان: “دور المناهج التربوية في تعزيز السلام”، بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي، دمشق خلال الفترة 8-9 جمادى الثاني، 1430هـ.
- في معنى التسامح، د. عمار علي حسن. نشر في 4 مارس 2016.
- ابن حجر العسقلاني: هداية الرواة، الرقم 5737.
- سيف الدين الآمدي: غاية المرام، ص 313.