التفكك الأسري ..
ما الفارقُ بين بيتٍ يجمعُ أفرادَ عائلةٍ واحدةٍ
ونُزلٍ يضمُّ مجموعةً من النزلاءِ من أماكنَ متفرقةٍ؟
في النزلِ لا يجتمعونَ على طعامٍ
ولا يعرفُ أحدُهم شيئًا عن جارِه
لا تربطُهم بالمكانِ أيُّ ذاكرةٍ
يغادرونَه بكلِّ يسرٍ دونَ أن يلتفتَ أحدُهم وراءَه
هذه النزلُ لا تعدو أن تكونَ أماكن للمبيت
وليس كلُّ مكانٍ للمبيتَ صارَ بيتًا!
لكنَّ العجيبَ هو ذاك الكمُّ من البيوتِ التي صارت نُزلًا!
انشغلَ أفرادُها كلٌّ بنفسِه
كلٌّ يحملُ همَّه منفردًا .. وينشغلُ بحلمِه مستقلًا
أنا أولًا ومن ثَمّ يأتي البقيةُ
لم تعد أعدادُ أفرادِ الأسرةِ كما هي مسجلةٌ بالسجلاتِ المدنيةِ
بل صارت أربعةَ أفرادٍ وأربعةَ هواتفَ ذكيةً!
مثلُ هذه الأجهزةِ لم تعدْ مجردَ شريكٍ
بل إنها قد سبقتْ وأطاحتْ بكثيرٍ من الأوقاتِ الحُلوةِ
بعضُ البيوتِ يكتفي فيها الرجالُ بسعيِهِم للرزق
ويرون هذا بديلًا كافيًا عن أيِّ دورٍ آخرَ يُنتظرُ منهم
وبعضُهم قد قررَ أن يتخلى أصلًا عن المسئوليةِ
فصارَ دليلَ كونِه زوجًا أو أبًا فقط الأوراقُ الثبوتيةُ
وبعضُ النساءِ انهمكنَ في تحقيقِ ذاتِهنَّ بالخارجِ
وسقطَ منهنّ أساسُ دورِهن أثناءَ العودة!
بعضُهن أعيتْهُنّ أعباءُ المنزلِ
فأصبحنَ لا يجدْنَ لأيِّ شيءٍ آخرَ وقتًا إضافيًا
منهنّ من استندتْ إلى مالِها فاستلهمتْ منه القوةَ
فانهدمَ البناءُ، وصِرنَ أكثرَ جرأةً على الاستقلالِ والتخلِّي
وهؤلاءِ اللاتي يَجِدْنَ في القوانينِ يُسرًا يُخلصُهُنّ
وهذان الزوجانِ اللذانِ تسحبُهما دوامةُ الخلافاتِ الزوجيةِ
تاركينَ وراءهم على البَرِّ أبناءً واجمينَ
فانفرطَ العِقدُ، وافترق الشملُ بدلًا من أن يلتمَّ
هل فكرتَ ما الذي تعنيه لكَ أسرتُك؟
إنّ أكبرَ ساحاتٍ لذكرياتِنا تُبني مع عوائلِنا
وإنّ إيابَنا بعدَ كلِّ شاردةٍ يكونُ لأحضانِها
وأسمى معاني المشاركةِ تكونُ مع أفرادِها
وأخصُّ أوقاتِ الفرحِ والدفءِ تكونُ برفقتِها
يتشكلُ فيها وجدانُنا … وتنمو بها مشاعرُنا
تتفتحُ منها مداركُنا … ونستقي معها أفكارَنا
وكلُّ مجتمعٍ قويٍّ يبدأُ بأسرةٍ متماسكةٍ
ترعى حقوقَ كلَّ فردٍ فيها
وكلُّ أسرةٍ صالحةٍ هي خطوةٌ لمجتمعٍ نافعٍ أكبر
هَلّا قُمنا بخُطْواتٍ مختلفةٍ!
(مهم قراءة هذا العنوان وليس الاكتفاء بكتابته)
فتكاثرت أيادينا على الطعامِ في البيتِ الواحدِ
وجمعَتنا على الأقلِّ يوميًا مائدةٌ واحدةٌ
لو تربَّينَا أن يَحكي أيُّ أحدٍ من أفرادِ البيتِ فيسمعَ له الآخرون
لو علِمنا همومَ بعضِنا فحَمَلناها معًا وأكثَرنا الدعاءَ
وآمالَ بعضِنا فداومْنَا على المشاركةِ والتشجيعِ
لو ألقينَا جانبًا هواتفَنا لبعضِ الوقتِ
ونظرنا لوجوهِ بعضِنا فأكثرنا تأمُّلَها
فلربما تغادُرُنا وجوهٌ قبلَ أن تُحفرَ ملامحُها في ذاكرتِنا
لو جمعتنا أهدافٌ وقيمٌ واحدةٌ مهما اختلفنا
وجمعتنا أوقاتُ مرحٍ ولعبٍ واستدعاءٍ للذكريات
لو تعوّدنا أن نحتفي بإنجازِ كلِّ فردٍ في البيتِ مهما صَغُرَ
وأحببنا أبناءَنا بلا شرطٍ أو قيدٍ
لو تعلمنا وعلمناهم كيف تكونُ المشاعرُ وكيفَ السبيلُ لخروجِها
لو تركَ الأبُ همومَ عملِه عندَ بابِ بيتِه
وعلمَ أنّ مالَ الدنيا يُنفقُ أمامَ لحظاتِ أمانٍ وسْطَ العائلةِ
لو أحالتِ النساءُ البيوتَ لزهرةٍ تجذبُ الزوجَ والأبناءَ لرحيقِها
لو تعلمنا أدبَ الخلافِ، وجنبنَا الصغارَ وَيَلَاتَهُ
ماذا لو لم نقم بذلك؟
إذا لم يكن بيتُك طوقَ الأمانِ لابنِك بترابطِه
فاعلم أنكَ قد أعطيتَه ضوءًا أخضرَ ليبحثَ عنه في الخارج
فالشعورُ بالأمانِ هو غايةُ معظمِ سلوكياتِنا
هذا التفككُ في بعضِ بيوتِنا
قد يكونُ السببَ وراءَ عزلةِ وانطواءِ الأبناء
أو السببَ وراءَ تأخرٍ دراسيٍّ نشتكي منه
لن تسعدَ إذا اهتزت شخصياتُهم واضطربت
فأصبحوا عرضةً لكلِّ استغلالٍ ممكن
لن تحبَّ أن ينحرفَ ابنُك أو يتمردَ على كلِّ ما عُلِمَ من الثوابتِ
إن دينًا نهى عن الفرقةِ بينَ عمومِ المسلمينَ حينَ قالَ اللهُ تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}
ماذا يكونُ رأيُه في الحالِ بين أفرادِ البيتِ الواحدِ؟!
كيف لنا أن نحققَ قولَ رسولِ اللهِ
(المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ المرصوصِ يشدُّ بعضُه بعضًا)
ونحن نفترقُ في البيتِ الواحدِ تحتَ السقفِ الواحدِ؟!
قد وصلَ إلى مسامعِنا فِعلُ ذاكَ الحكيمِ
الذي أرادَ أن يَطمئنّ على حالِ أبنائِه قبلَ موتِه
فما عدّ لهم مالًا ولا تَرِكَةً
بل جمعهم وطلبَ منهم كسرَ عِصِيِّ متفردةٍ فانكسرت
ثم جمعها وطلبَ منهم كسرَها مجتمعةً فأبت أن تنكسرَ
فكان هذا خيرَ ما يورثه لهم: ألا يفرطوا في تماسكِهم
فبه تحصلُ القوةُ .. وبه تمرُّ المحنُ
ولعلَّ هذا جانبٌ من جوانبِ الخيرِ التي دلَّ عليها رسولُ اللهِ حين قالَ:
(خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلِي)