الثبات مطلب لكل مسلم، يحرص على تحصيله ويسعى إلى تحقيقه، لأنه دليل الإيمان الصحيح، وطريق الوصول إلى الجنة بإذن الله تعالى، وهو دأب الأنبياء والصالحين، وسمة أهل الحق في كل زمان.
ونحن في زمان أحوج ما نكون فيه للثّبات، لظهور الشبهات وتمكن الشهوات، وكثرة الفتن والابتلاءات وتعدد الرايات وتَعالي الدعاوى والادعاءات، مع شعور البعض بضعف الإسلام وأهله، وانبهاره بالكفار وقوتهم وتمكنهم وغلبتهم، ولا سبيل لمواجهة كل هذه الأمور إلا بهذه الفضيلة.
معاني الثبات في القرآن
وتعددت معاني الثبات في القرآن الكريم، فجاء بمنعى الدوام، وذلك في قول الحق- عز وجل-: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ (إبراهيم27)، أي: يديمهم عليه، وقد جاء بمعانٍ أخرى، وهي:
- التمكين: قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ (إبراهيم 27). أي: بالقول الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم.
- التقوية: قال تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ (البقرة 250). أي: قوِّ قلوبنا؛ وقال تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: قوُّوا عزائمهم.
- النصرة والمؤازرة: قال تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الأنفال12) بمؤازرتهم وحضور الحرب معهم والقتال في صفهم.
- البشارة: قال تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: بشروهم بالنصر.
- تسكين القلب: ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، تثبيت الفؤاد يعني تسكين القلب.
- التحقق والتصديق واليقين: قال تعالى: ﴿وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (البقرة 265) أي: أن أنفسهم موقنة ومصدقة ومتحققة من وعد الله إياها.
- الحبس: قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ يعني: ليحبسوك.
- الصبر: قال تعالى: ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ (الأنفال 11) أي: يثبت الأقدام بالصبر.
- الثبات بمعناه الظاهر وهو الاستقرار والرسوخ في المكان: قال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ (الأنفال11). والمقصود: تلبيد الأرض بالمطر لتثبت أقدام المؤمنين في السير عليها فلا تسوخ ولا تتحرك فتضطرب.
دلائل على أهمية الثبات من الكتاب والسنة
ولقد أمر الله تعالى بضرورة الثبات عند لقاء الأعداء، فقال- عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال 45).
وأثنى سبحانه وتعالى على من مضى قبلنا لما سألوا الثّبَات فقال سبحانه: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة250).
وحذّر سبحانه من الزلل بعد الثّبَاتِ، وذمَّ قومًا زلوا بعد ثباتهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ (النحل 94).
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- كثير الدعاء إلى ربه بالثّبَاتِ، وهو المعصوم، فقد كان من أكثر دعائه: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك” (الترمذي).
والحاجة ماسة للثبات سيّما في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن، فأصبح المرء لا يأمن على نفسه الفتنة، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: “بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا” (الترمذي).
والإنسان في حاجة للثبات في كل أمره، قولًا وفعلًا ورأيًا وقلبًا وقدمًا، في الدنيا والآخرة، لذلك فهو يردد في كل ركعة من كل صلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الفاتحة: 6).
والثّبَاتُ أصل من أصول الدين العظيمة، قال ابن القيم: “الدين مداره على أصلين: العزم، والثبات؛ وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “اللهم إني أسألك الثّبَات في الأمر والعزيمة على الرشد”.
ميادين الثّبات
أولًا: على المبدأ، فها هو نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- حين عجزت قريش عن إثنائه عن دعوته بتخويفه وتخويف أصحابه وإيذائهم والسعي إلى فتنتهم وفتنته عليه الصلاة والسلام؛ فعجزوا عن ردهم عن دينهم، فلجأوا إلى عمه أبي طالب، فقالوا له: “يا أبا طالب! إن لك سنا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين”، ثم انصرفوا.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: “يا ابن أخي! إن قومك قد جاءوني؛ فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق”، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته”.
ثانيًا: عند الأذى، وكثير ممن انطلق يدعو إلى الله ويبلغ رسالة الإسلام؛ انقطع، منهم من انقطع في أول الطريق، ومنهم من انقطع في وسطه، ومنهم من انقطع بعد ذلك، إما بإغراء أو ترغيب بعرض من الدنيا، وهو قليل، وإما بالأذى يناله من الناس والفتنة تقع عليه بدعوته إلى الله، وذلك كله سنة من سنن الله في الدعوة والدعاة، وهو القائل جل وعلا: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 1-3).
ثالثًا: عند الابتلاء، فالله تعالى إنما خلق الحياة للابتلاء، كما أنه- عز وجل- خلق الموت كذلك للابتلاء. وقد قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، فإذا كان حتى الحياة والموت ابتلاء، فكيف بتفاصيل الحياة وأسباب الممات؟ كل ذلك يبتلي الله المؤمن لينظر أيصبر أم يضجر، وحق المؤمن أن يثبت على البلاء مهما شق عليه تحمله، والله تعالى يعينه على الخير ما ثبت وصبر.
معينات على الثّبات
وساق الإسلام بعض الوسائل والمعينات على الثبات في كل وقت، نشير إلى بعضها في هذه النقاط:
- النصرة لله تعالى: فمن أراد أن يقيم حياته على الثّبَات فعليه بالنصرة لله في دينه وشرعته وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- وقد قال تعالى في ذلك مصرحًا: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
- الاعتقاد بأن الله لا يفعل إلا خيرًا: فأهل الثّبَات يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنّ الله تعالى كل ما يفعله خير، وأنه سبحانه لا يفعل إلا خيرًا، وأن كل ما يقع له وكل ما يصيبه هو خير له، ظهر ذلك أو لم يظهر، بانت حكمة الفعل أو غابت، ظهرت آثار الخير أو خفيت، لأنّ الشر لا ينسب إلى فعل الله أبدًا، وأن الخير بيديه والشر ليس إليه.
- اليقين بمعية الله: فلا بُد للمؤمن المجاهد من أن يكون على يقين قاطع أنّ الله معه ينصره ويؤيده ويدافع عنه، فهو القائل- سبحانه وتعلى-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.
- الذكر الكثير: وقد أوصى رب العزة المؤمنين المجاهدين بذلك فقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (72).
- تعظيم الشعائر: ومن المعينات على الثّبات عند الشدة والبلاء والفتنة والمحنة تعظيم شعائر الله، والحرص على إظهار الالتزام بآداب الإسلام وتعاليمه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
- الدعاء: وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه كثيرًا بالثبات، وهكذا يجب أن يكون المسلم لا يتزعزع بكل حادثة، ولا يترنح بأقل ضربة ولا يرتاب بأول مواجهة ولا يضطرب بأدنى فتنة.
أهمية التربية وقت المحن
وتلعب التربية دورًا مهمًا في الثبات وقت المحن والعقبات، خصوصًا إذا كانت بالشكل المرجو منها خلال كل مؤسسة يتلقى الفرد منها أسس ومسار حياته، وأثر التربية على الفرد عظيم، من الناحية النفسية أو السلوكية أو غيرها، فإذا نال الفرد قسطا من التربية كانت له وِجاءً في محنته، فشعر بالسكينة والأمن، والرضا واليقيٌن، والثّبات وقت الأزمات، فالتربية الصحيحة تجعل القلب ثابتا لا يجزع، والمؤمن بالله والموقن بلقائه، لا تلهه متاع الدنيا، كما لا ترهبه مصائبها، ولا تزعجه بلاياها.
وتدفع هذه التربية الإنسان إلى استشعار نعم الله التي كان يرفل فيها قبل المحنة، وتغرس في نفس الفرد سُنّة التدافع التي بها يرفع المرء الظلم عن نفسه وقومه ويدفع الفساد، وتجعله حريصًا على الإصلاح من أجل رفع البلاء ونشر الخير، كما لا تجعله ينزعج فلا يصدر عنه تخريب أو تنتشر فيه آفات القلب كالحسد وغيره، بل تدفع الإنسان إلى تحري الحلال في مكسبه حتى يرفع به بلاء نازل أو سيئة صاعدة.
أما عن أثرها على المجتمع، فهي تزيد من التلاحم والترابط بين الأفراد وقت المحن والصعاب، وتُعلي من الشعور بالأخوة والمحبة بين أفراد المجتمع لدفع البلاء، وتسمو بروح التضحية والبذل وقت المحن والصعاب التي تقع على الأفراد، كما تبعث على التكافل والتضامن سواء كان معنويا أو ماديا.
أخيرًا
فإن الثبات على الحق والمبدأ سمة من سمات المؤمنين، وصفة من صفات الموحدين، بل هو لازم من لوازم الإيمان، وغاية لا يدركها إلا مؤمن جاهد العصيان، وروّض نفسه على الطاعة والإحسان فيها.