تُعدّ العلاقة بين التربية والثقافة علاقة ديناميكية مستمرة لا تتوقف عند زمان أو مكان، إذ تهدف التربية لنقل القيم والخبرات والثقافة من جيل إلى جيلٍ بطريقة حضارية مُتطورة تُناسب الجيل المستقبل، باستخدام وسائل تَربويّة مُتطوّرة تعمل على تعزيزها وتُبقيها على قيد الحياة.
وإذا كانت الثّقافة هي المُحتوى أو التّعليمات، فإنّ التّربية هي الوسيلة التي تنقلها، على سبيل المثال: إذ كان الصّدق محتوى ثقافيًا فإنه يُمكن نقله بوسيلتي التلقين والقدوة، وهنا يتبيّن مراعاة اختيار الوسيلة المُناسبة في عملية النّقل، ليشعر الفرد بانتمائه إلى المجتمع ويتشرب مفاهيمه، سيما أنّ التربية تعتمد أسلوب الإقناع والضبط لا التّسلط أو التّلقي فحسب.
التربية والثقافة
ويُمكن معرفة معنى التربية والثقافة من خلال توضيح كل مفهوم على حدة، فالتربية هي “عملية تطبيع اجتماعي تهدف إلى إكساب الفرد ذاتًا اجتماعية تتميز بها عن سائر الكائنات الأخرى في جميع مستوياتها التطورية، فهي التي تجعل من الفرد عضوًا عاملًا في الجماعة، حيث يتطبّع الفرد بطباع الجماعة المحيطة به، وعملية التطبع هذه تحدث في إطار ثقافي مُعيّن تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر”.
أما الثقافة، فيراها البعض بأنها خلاصة العلوم والتجارب البشرية والدينية التي تُوجّه الفرد الوجهة الصحيحة، بينما يقصرها البعض الآخر على تهذيب المواهب بالمعرفة والتمرس بالتراثات الفكرية والأدبية والفنية ممّا يؤدي إلى غنى فكري واسع، يسمح للعقل البشري أن ينسق ويوحد بين الثقافات.
صور العلاقة بين التربية والثقافة
وتُشكّل كل من التربية والثقافة وجهين متكاملين لنفس الواقع، بحيث يتعذر تأمل إحداهما دون استحضار الأخرى، فإذا كانت الثقافة تمثل المضمون المادي للتربية والمبرر الواقعي لوجودها وتواجدها، فإن التربية تشكل في المقابل الأداة أو الوسيط الحاسم في نقل الثقافة وحفظها كذاكرة إنسانية دائمة الحياة ومُتجدّدة النشاط وقابلة للتلقين للأجيال الصاعدة عبر معارف تراكمية، وأدوات فكرية وأعمال خالدة.
وتتعدد صور العلاقة الديناميكية بين مفهوم التربية ومفهوم الثقافة، على النحو التالي:
التربية رافد أساسي في نقل الثقافة وتعزيزها داخل أيّ مجتمعٍ، وهو ما يتطلب تخطي الأنماط التقليدية الموجودة داخل المنشأة التعليمية التي ترتكز فقط على المناهج التعليمية النظرية، بل بحاجة إلى وسائل عملية مثل إنشاء المعارض الثقافية الداعمة لمفهوم الثقافة.
إن العلاقة بين كل من الثقافية والتربية ليست مقصورةً فقط على الجانب التعليمي بهدف نقل ثقافة مجتمعٍ ما والحفاظ عليه، بل إن طبيعة العلاقة تتخطى ذلك في نقل الثقافة وتمثيلها على المستوى العالمي عبر عقد المؤتمرات السنوية الداعمة لمفهوم الثقافة.
والتربية عملية اجتماعية ثقافية تحدث في صورة نقل أنواع النشاط والتفكير والمشاعر التي تسود جماعة ما إلى جيل الصغار لإكسابهم الصفة الاجتماعية فهي بذلك عملية تطبع اجتماعي أو عملية تشكيل ثقافي، وتتصف هذه العملية بالالتزام وإلزام التربية.
المجتمع في نموه وتطوره يحتاج إلى قدر كافٍ من الاتساق والانسجام، ولا يأتي ذلك إلا إذا شاع بين أفراده الأفكار ووسائل المعيشة والأنشطة السلوكية والقيم والاتجاهات والمعتقدات وغير ذلك، ما يُشكل النسق الثقافي للجماعة التي يعيش فيها ووسائل الجماعة إلى تحقيق هذا الانسجام.
التربية تختلف من مجتمع لآخر تبعا لاختلاف ثقافته أو أيدلوجيته ونظامه الاقتصادي ونظامه السياسي والاجتماعي.. إلخ، والمؤسسة التربوية هي عامل من عوامل التثقيف الرسمية لنقل التراث الثقافي، كما أن العملية التربوية نفسها هي أحد العناصر الثقافية أو هي بذلك الجزء المصقول من الثقافة لشعب معين.
والعملية التربوية هي أحد جوانب تعزيز التراث الثقافي، وهي تساعد على التغيير بإضافة مخترعات حضارية جديدة، وتقوم بعامل التوعية في المجتمع بناءً على ما لدى المجتمع من تراث.
إذا كانت الثقافة بالنسبة للفرد مرادفة لشخصيته وبالنسبة للمجتمع مرادفة للشخصية القومية فإن معنى ذلك أنه لا وجود للثقافة دون التربية، لأن من سمات الشخصية النمو وأنه لا يوجد نمو دون تربية.
التربية تقوم بدور مهم في إحداث التوازن بين عناصر البيئة الاجتماعية بعضها البعض، وبناء على هذا الدور تلعب التربية دورا مهمًا في تذويب الفروق بين طبقات المجتمع أو على العكس إلى تأكد النظام الطبقي في المجتمع ورسم حدود صارمة، وتقوم بوظيفة مهمة في عمليات الإحراق الاجتماعي وتعدد أفكار وسلوكيات ووسائل الأفراد في حياتهم، ما يؤدي إلى التغير الثقافي والاجتماعي.
تستمد التربية أهدافها ومناهجها ونظامها وإدارتها من الرصيد الثقافي للمجتمع، وهي وسيلة نقل الثقافة تحقيقا للتماسك الاجتماعي واستمرار المجتمع، وهذه العملية أيضًا للفرد نفسه حيث تزوده بمقومات وأدوات التفاعل الإيجابي والتكيف السوي مع أقرانه من أفراد المجتمع وتسليحه بالقدر الكافي من المعلومات والمهارات اللازمة للقيام بدوره في إنتاجه.
دور التربية الإسلامية في تشكّل الثقافة الدينيّة
وفي الشريعة الإسلامية نجد أن الارتباط بين التربية والثقافة واضح، فالتربية تؤثر في استقامّة الطبائع البشريّة، من حيث تعديل الغرائز الفطريّة والتحكّم في اندفاعاتها وتقليم أظافرها الطائشة المخرّبة للنظام الأخلاقي العامّ، والمتمرّدة على كلّ قواعد الانضباط.
والتربية الدينيّة ليست مادة تعليميّة، ولا يُراد بها استظهار بعض الأحكام والإشادة بمواقف من تاريخنا، إنّما يراد بها أوّلًا استخلاص قيم الإسلام في مجال السلوك الإنسانيّ، بدراسة المنهج الأخلاقي في القرآن الكريم والسيرة النبويّة، لكي تكون هذه القيم مطبوعة في النفس.
ونظرًا لمكانة الدين في النفس البشريّة، فإنّ من اليسير أن تحظى هذه السلوكيّات باهتمام الناشئة، وأن تنمو قيم الفضيلة في نفوسهم من خلال ذلك النموذج الأعلى الذي يحظى بقداسة دينيّة، وتعد التربية الدينيّة من أهمّ الأسباب التي تدفع الناشئة إلى التزام طريق الاستقامة والتعلّق بقيم الفضيلة.
وعندما تكون مناهج هذه التربية سليمة، فمن المؤكّد أنّ أثرها ينعكس بطريقة إيجابيّة وسريعة على أخلاق المجتمع وتماسك الأُسر، وتكافل الأفراد والجماعات، وبخاصّة فيما يتعلّق بظاهرة الجريمة والانحراف.
والشّخصيّة الإسلاميّة هي وليدة ثقافة شموليّة متكافلة، أسهمت في نمو تصوّرات فكريّة وقِيَم سلوكيّة، جعلت المُسلم في حالة انسجام مع نفسه، فلا يضيق بفكره، ولا يتناقض مع تصوّراته، لذلك جاءت شخصيّته متماسكة منسجمة، وهذا هو الأصل في نموّ الشخصيّة الإسلاميّة وفي طبيعة تكوينها.
وعندما يقع التناقض بين النفس بمكوناتها العضوية والغريزية والتصور الفكري المتعلق بالقيم، فسرعان ما ينعكس أثر ذلك التناقض على السلوك العام، فيقع التّصادم بين الإنسان وذاته، وتنكفئ النّفس على ذاتها في موقف رقابي يجسّد حالة التيه والضياع.
دور التربية في إكساب السلوك الثقافي
ومن الممكن إجمال أهمّ أدوار التربية في إكساب السلوك السلوك الثقافي من الأسرة، على النحو التالي:
- تبدأ العلاقة بين التربية والثقافة من الأسرة، وتبدأ المسؤوليّة الكبيرة لبناء شخصيّة الطفل من خلال قنوات الأحاسيس المحدّدة، السمعيّة والبصريّة والشمّيّة والذوقيّة، التي تتطلّب سلامة مؤدّياتها ألاّ وهي الأذن والعين والأنف واللسان، لذا يتطلّب اهتمام الدولة والمجتمع بالأسرة وبنائها عبر وسائل الإعلام والمؤسّسات الصحّيّة والتربويّة والثقافيّة.
- إنجاز المؤتمرّات والندوات الفعالة التي تؤدّي بالأسرة والمجتمع والمؤسّسات إلى أساليب الحلول الناجحة، بالاستنتاجات والتوصيّات المناسبة.
- اهتمام وسائل الإعلام بالشخصيّات المؤثرة في المجتمع والأسرة، من خلال اللقاءات اليومية، لعرض الإنجازات العلميّة والعمليّة والسيرة الذّاتية، ما يتيح للأسرة وأفرادها الاقتداء بهم وتقويم تربيتهم.
- فتح أوقات مناسبة ومطوّلة لتبادل الآراء بين نخبة من الأدباء ورجال الدين والمثقّفين والكتّاب وحتّى مختلف شرائح الفنّانين، وفتح الحوارات بينهم وبين الجمهور أو المجتمع، عن طريق الندوات والمؤتمرّات المفتوحة وعرضها عبر قنوات التلفاز والمذياع والصحف… الخ.
- الحيلولة دون وقوع ازدواجيّة ثقافيّة وتربويّة، والتناقض بين الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، باتّباع أفضل الأساليب الإنسانيّة للحيلولة دون خلق الصراع والكراهيّة والعنف.
- الاهتمام بتنمية القدرات التربويّة والثقافيّة لدى الكادر التدريسيّ على كلّ المستويّات وكلّ المراحل الدراسيّة، وبناء روح التعاون بين الطالب والمدرسة أو الجامعة وحتّى بلوغه الخوض في مهامه أو مسؤوليّاته الوظيفيّة المستقبليّة.
إن العلاقة بين التربية والثقافة ديناميكية التربية لا تتوقف، فالتربية هي العمود الفقري للثقافة، والثقافة هي روح التربية، وكلاهما لا يستطيعان العيش بمعزلٍ عن بعضهما، لأن التربية ليست فقط سلوكًا مكتسبًا يقود إلى تبني مفهوم الثقافة للمتعلمين على مقاعد الدراسة فحسب، بل هي سلوك وطريقة تقود هؤلاء الأفراد إلى كيفية بناء التصورات النظرية والعملية في الحفاظ على هوية مجتمعاتهم من الانصهار والاندثار، بفعل تأثيرات إصلاحية يراها البعض بأنها خلاص المجتمع من القيم والعادات والتقاليد البالية.
المصادر والمراجع:
- معاذ عليوي: العلاقة بين التربية والثقافة.. إشكالية الممارسة والتطبيق.
- الدكتور طارق عبد الرؤف عامر: أهمية الثقافة ووظائفها وعلاقتها بالتربية.
- الغالي أحرشاو: التربية والثقافة.. أية علاقة وأية وظيفة، ص 8.
- الدّكتور عبد الحكيم الغزّاوي: البُعد التربويّ والاجتماعيّ في تشكّل الثقافة الدينيّة.
- هاشم حسين ناصر: التربية الثقافية.. والثقافة التربوية.