إنّ العنف تجاه الأطفال يؤدي إلى تحجيم قدراتهم الإبداعية وكبت طاقاتهم الفكرية وتكريس المعاناة في محاولات التلقي والبرمجة الطبيعية الفطرية التي أودعها الله تعالى فيهم مسبقًا. وهذا أثر من آثار فقدان القدرة العقلية للفرد المسلم على الإبداع والابتكار والتقدم بخطوات سريعة، ترتقي إلى أعلى المستويات التي تتوق إليها الأمة المسلمة.
وفي دراسة للدكتور رشاد عمر الدسوقي، أوضح مدى خطورة هذا السلوك الأسري على الطفل، فالتّخبط وعدم اتباع المنهج القرآني وتطبيقه وفق النموذج والإرشادات النبوية الحنيفة، تؤدي إلى عواقب وخيمة أوضحها المنهج الرباني السّباق لكل علم، ثم أكدها الطب الحديث بعد ذلك.
تعريف العنف وبيان خطورته
العنف لغة هو: ضِدُّ الرِّفْقِ، وأَعْنَفْتُهُ أنا أو عَنَّفْتُهُ تَعْنِيفًا. والعنيف من لا رِفْقَ له. واعتنف الأمر أخذه بعنف. وقد اتفقت المعاني والمترادفات في معظم معاجم اللغة العربية على لفظ العُنْف وما يحويه من معانٍ توصيفية للخُلُق والطباع والنواحي النفسية كاللوم المتكرر، والقسوة، والكراهية، والشدة، والغلظة، وما ينتج عن ذلك من إلحاق الضرر كفقدان الشعور الذاتي بالأمن والطمأنينة والكرامة.
واستند معظم محللي هذا السلوك ضد الأطفال في العالم إلى تعريف منظمة الصحة العالمية وهو: “الاستعمال المتعمد للقوة الفيزيائية، أو القدرة، سواء بالتهديد أو الاستعمال المادي الحقيقي ضد الذات أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو مجتمع، بحيث يؤدي إلى حدوث إصابة أو موت أو إصابة نفسية أو سوء النماء أو الحرمان”.
تعارض العنف مع الكتاب والسنة
ويتعارض العنف مع روح القرآن الكريم؛ فمن مبادئ الرحمة التي يعرفها كل مسلم، أنّ الله تعالى رحم عباده بإنزال الكتاب المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعلم البشر كيف يتخذونه منهجا لحياتهم، وإلا ضلوا ولكانت الحياة لغزا لا حل له.
وكل سورة في التنزيل الحكيم تبدأ بتأكيد الرحمة في البسملة، ليتذكر المسلم أنّ خالق الكون بما فيه من معجزات وآيات وجمال واتساع وتركيبات، قد سخره سبحانه للإنسان، وهذا من رحمته – جل وعلا-، قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54)، فقد وسعت رحمته كل شيء، وهي تدل على الفضل والكرم وتحمل معاني مجازية عديدة، كما في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} (الأنعام: 133).
فهي رسالة قرآنية قوية تدفع الإنسان مرارًا للرّحمة والتراحم، حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه الإنساني، وفؤاده وإيمانه بأصل الرحمة ومنبعها. وقد وردت في القرآن على ستة عشر وجه، في حوالي مئتين وثمانية وستين موضعًا، وهي تدل على العطف والحنان، ومن يملكها يكون غنيا في خلقه، ثريا في روحه، معطاء في حنانه.
والرحمة منّة من الله تتجلى في آيات كثيرة منها: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (الحديد: 27)، ويؤكد الله – عز وجل- أنها نعمة ترفع القسر والضيق والضغط والكربات، فالتخفيف والتيسير من الرحمة، كما يؤكد سبحانه: {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 178) وهي منّة منه سبحانه يعصم بها المرء من نفسه الأمّارة بالسوء.
ولقد أرسل الله – عز وجل- خاتم النبيين، رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وتتجلى هذه الصفة السامية، في رسالة نبي الرحمة، وفي كريم شخصيته، وفي جل معاملاته، مع الصغير قبل الكبير، والغني والفقير، والسيد والمَسُود، والعربي والأعجمي، والمسلم واليهوديّ والمسيحيّ والكافر.
وأرشدنا النبي الكريم إلى الرحمة في أقواله وأفعاله، استكمالا لمبادئ الرحمة الواضحة في القرآن. فأحاديثه عنها – صلى الله عليه وسلم- هي مفتاح المنهج النبوي التربوي، المبني عليها وما يلحق بها من طباع الحلم والصبر والليونة والهوادة والرأفة والرفق.
ومن أقواله – صلى الله عليه وسلم- التي تحث على التخلق بالحلم ونبذ الغضب، ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي” (البخاري ومسلم).
وقال – صلى الله عليه وسلم-: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَالرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَتْهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَّتْهُ” (الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ).
وفي حديث (متفق عليه)، قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “إنّ للهِ تَعَالَى مئَةَ رَحمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجنِّ وَالإنس وَالبهائِمِ وَالهَوامّ، فبها يَتَعاطَفُونَ، وبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تَعَالَى تِسْعًا وَتِسْعينَ رَحْمَةً يرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَة”.
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة، عن النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيء إلاَّ زانه، ولا يُنزع عن شيء إلاَّ شانه”.
أسباب القسوة والغضب ضد الأطفال
وتتنوع أسباب العنف والقسوة ضد الأطفال؛ فمنها الوراثية، والأسرية، والنفسية، والاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى الأفكار التقليدية، وجميعها تؤدي إلى آثار وتبِعات سيئة على الطفل، نفسيًّا وجسديًّا، وقد تستمر في المستقبل.
- الأسباب الوراثية: لقد قرر الأطباء أن التعرض لفترات طويلة من الغضب ترفع ضغط الدم، وأنّ هذا مرض وراثي وأن الأمراض المزمنة ترجع كلها إلى الغضب المتوارث جينيا. ورغم أنّ الله تعالى قد خلق جينات الغضب في بعض الناس، فإنه يمكن معالجتها منذ بداية حياة الإنسان.
- الأسباب الأسرية: ومن الأسباب التي تتسبب في الغضب عدم اهتمام الأم بتغذيتها في فترة الحمل، فيؤثر ذلك على الطفل، إضافة إلى أن الإهمال في الرضاعة، وعدم الاهتمام بالوليد يتسبب في مشكلات نفسية له في المستقبل.
- والأسباب الاجتماعية والنفسية: ويتولد الغضب مع العُزلة الاجتماعية التي تعيشها بعض الأُسر، إضافة إلى امتلاك الأبوين عواطف تدعو إلى العُنْفِ ضد الأطفال، كل ذلك في ظل قلة المعرفة بطريقة تربية الأطفال والتعامل الصحيح معهم. وللمجتمع دور كبير في شيوع الغضب وانتشاره، في حالة اتخاذ العقوبة الجسدية كعِقاب مقبول، في ظل نقص التعليم وانتشار الجهل وانتشار مفاهيم العُنصرية، وعدم المساواة أو التوازن في العلاقة بين الرجل والمرأة.
- الأسباب الاقتصادية: ولا ننسَ خطورة الفقر والعوز وتراجع الوضع الاقتصادي للأسرة في شيوع الغضب.
- والتربية التقليدية تقوم على العنف كأداة تربوية تعليمية، وهذا ما ينهجه بعض الأولياء لاقتناعهم بأن العنف أداة تربوية فاعلة، غير أن البحوث الحديثة تُركز على التربية الحديثة القائمة على الإقناع بالحجة ومخاطبة العقل ودفعه إلى التمسك بسلوكيات معينة دون إكراه حتى تصبح سمة بارزة في شخصيته.
حلول لمشكلة القسوة ضد الأولاد
إنّ العنف والغضب ضد الأطفال ظاهرة مسّت العالم كله، ولا بد من العمل على وضع حلول لها تتناسب مع البيئات المختلفة، لحماية النشء من التشوه النفسي وفقدان الثقة في نفسه، حيث يمكن اعتماد هذه الحلول للقضاء على المشكلة:
- وضع برامج تثقيفية للوالدين والمعلمين والمربين، لتعليمهم الأسس الصحيحة للتربية وَفق للكتاب والسنة.
- نشر أضرار ومخاطر الغضب والقسوة تجاه الأطفال وأشكاله وأنواعه، وتوعية الأسرة عبر وسائل الإعلام والمؤسسات المجتمعيّة خطورة المشكلة.
- تقديم الدعم النفسي للأطفال المعرضين للعنف للأسري وتشجيعهم على التعليم، وفي الوقت نفسه تقديم جلسات توعوية، ودورات تأهيلية للأسرة وأولياء الأمور؛ لشرح مخاطر ممارسة القسوة تجاه الأطفال.
- إفساح المجال للجمعيات التي تُنادي بحقوق الطفل وحمايته من القسوة والغضب.
- الإبلاغ عن أي حالات عُنف ضد الأطفال، ليصل حجم المشكلة الحقيقي إلى صناع القرار، وبالتالي اتخاذ القرارات المناسبة والحلول الناجعة.
- تعزيز دور المرشد النفسي الذي يُمكن أن يستدعى ولي أمر الطفل المُعنّف ويحاول توعيته من خطورة السلوكيات العنيفة الممارسة ضد التلميذ ومحاولة توجيهه للتعامل بحكمة مع الطفل، بالإضافة إلى تشجيع الأسرة على فتح باب الحوار مع الأبناء والمناقشة، بدلا من اتباع أسلوب العقاب.
- ولا بُد من تفعيل دور المساجد في تغيير ثقافة أولياء الأمور والمربين في التعامل مع الأولاد، من خلال خطب الجمعة، ودروس العلم التي تشير إلى الاهتمام بالأطفال وضمان حياة كريمة لهم من منطلق مبادئ الدين الإسلامي، الذي من أهم مقاصده الحفاظ على الإنسان باعتباره محور الحياة الاجتماعية.
- ومن الضروري سن حظر قانوني صريح بشأن القسوة ضد الأطفال، على أن يشمل جميع مظاهر الغضب والقسوة.
الخلاصة
إن العنف يُؤدى إلى أعظم المفاسد الاجتماعية إذا أصبح هو السلوك الوحيد للمربي في التعامل، حيث يفقد الولد المحضن الذي يمنحه الأمان والاطمئنان ومن ثمّ يؤدى إلى الإحساس بالضياع والتخبط والتمرد على الوالدين والعقوق، وإذا تطورت الأمور يؤدي إلى التفلت والانحلال والهروب من البيت والارتباط بمن يُعوّضه عن الحرمان العاطفي خارج البيت؛ مثل أصحاب السوء ومن ثم فقدان الهدي القرآني والصراط المستقيم.
ويُعد العُنْف نتاج الغضب الذي يستحوذ على الإنسان، ولا يمهله ليفكر فيرتكب الظلم، لعدم التروي والتأني في الأمور، والتحقق مما إذا كان الولد يستحق التعنيف الواقع عليه: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء: 37)، وهذا يتعارض مع ما حث عليه الله عز وجل من الاعتدال والعدل. فعن أبي ذَرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عن اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قال: “يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا …”.
المصادر:
ابتسام سالم خليفة: مظاهر العنف الأسري ضد الأطفال وأثره على المجتمع، صـ13.