رغم تعدُّد مجالات القوة في ذاتية الإنسان، تأتي القوة النفسية على رأس الهَرَمِ، فهي التي تجعل الشخص ثابتا أمام العوائق، وحكيمًا في المواقف، ومتوازنًا في الأزمات، وعادلًا مع الغير، وصابرًا عند البلاء، وكل ذلك يحتاج إلى قِيَمٍ نبيلةٍ وخُلُقٍ عَظَيمٍ، لتحقيق السّلام الداخلي والشعور بالطمأنينة.
ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قدوتنا في تحقيق هذا التوازن والسلام الداخلي بأخلاقه الكريمة، التي زكّاها الله – عز وجل – من فوق سبع سماوات، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ويقول – صلى الله عليه وسلم -: “البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ” (رواه مسلم).
وهذه القوة الرُّوحيَّة، تستمد وَقُودها من تعاليم القرآن الكريم والسُّنة النبوية؛ فالصدق والأمانة، والتسامح والعفو، والصبر، والتوكل على الله، وحسن الصلة بالله، قِيَمٌ إسْلاميّة نبيلةٌ تُؤسس لهذه القوة وتمنحها البقاء والاستمرار في نفوس النّاس، فيَسْلَمُون ويَسْلَم غيرهم من الأذى.
القوة النفسية وخُلق الصدق
الصدق والأمانة من مصادر القوة النفسية التي تُعين المسلم على تحمل مصاعب الحياة، لذا قال الله – عز وجل – في حديثه إلى المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، والصدق مع النفس نوع من الاستبصار الذي يُساعد في التعرف إلى مواطن الضعف والقوة، والاعتراف بمنافذ الضغوط ومصادر التوتر والقلق التي يتعرّض لها الإنسان وهو مدعاة إلى أخذ الأمور مأخذ الجد وعدم إنكار الضغوط أو الهروب منها، بل مواجهتها وتحدّيها، كما أنه يُولّد في نفس المؤمن الثقة والاطمئنان.
لذلك لما سَأَلَ هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان فيما قال له: “أوَ كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: فما كان ليَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل” (رواه البخاري).
وما يجري على الصّدق يجري على الأمانة، فهي خصلة محمودة، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُلقّب قبل البعثة بالصادق الأمين، ما وفّر له مجالًا من الحب والاحترام والتقدير، جعل قريش تحتكم إليه في وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة.
إن الأمانة مع الناس – في أداء الأعمال مثلا – يجنبهم كثيرًا من الضغوط التي تنجم عن تعطيل أعمالهم وتكليفهم ما لا يطيقون، وحَرِيٌّ بكل إنسان مسلم أن يكون أمينا في عمله، وفي أسرته، ومع جيرانه، ومع مجتمعه، ولو عمت الأمانة بين الناس لتقلّصت الضغوط.
بناء القوة النفسية بالتسامح
ولم يكن التسامح أو العفو يومًا نتاج الضّعف أو التهاون، بل هو مظهر من مظاهر القوة النفسية الذي يضبط ميزان الخلق ويجلب الرحمة والمغفرة، يقول المولى – عز وجل -: {… وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ويقول – أيضا – عزّ من قائل: {… وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
ولقد ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة في التسامح والعفو، فها هي قصَّة الأعرابي الذي جبذه بردائه جَبْذَةً شديدةً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء” (رواه البخاري).
إن الإنسان المسلم عندما يُفكّر بطريقة متسامحة، ويضع نفسه موضع أخيه، ويحاول أن يلتمس له العذر عن الخطأ أو التقصير، ويبحث في ماضي علاقته به، يجد له من الفضائل والمكرمات ما يدفعه إلى التجاوز عنه والعفو عن تقصيره، فتستريح نفسه وتصفو سريرته ويرى ما غاب عنه نتيجة للضغوط.
الصبر والتحمل
للصّبر في الإسلام منزلة عظيمة، فالآيات القرآنية تُوضح منزلته وجزاءه وثمراته في الدنيا والآخرة، ولقد صبر المسلمون الأوائل على إيذاء الكفار في مكة حتى أذن الله لهم بالهجرة بعد أن لاقوا البلاء والتعذيب والحصار وكل ألوان الابتلاء؛ فنصرهم الله وأعزهم وأظهَرهم على عدوهم.
ومن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الصبر وتُرسخ مبدأ القوة النفسية في نفوس المسلمين، قول الله تعالى: {… وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، وفي سورة يوسف يقول يعقوب: {… قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] حتى يروض نفسه على فقدان ولده الحبيب إلى قلبه.
وأمثلة الصبر في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام تُعدّ ولا تُحصى، ولنا في قصة الخندق العبرة والعظة، وكذلك حصار المسلمين في شعب أبي طالب وغيرها الكثير، ويتنوع الصبر في حياة المسلم، فيشمل الصبر على الطاعات، والصبر عن المحرمات، والصبر على الإخوان.
ويعلمنا الله – سبحانه وتعالى – طرائق الصبر فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، ويبشرنا بثمراتِ الصبر: {… إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
وقد برهن المسلمون على مدى تحلّيهم بالصبر، خصوصًا عند الملمات والكروب، فأصبحوا نافعين لأنفسهم ولمجتمعِهم، وخير سفراء لدينهم وعقيدتهم، وزاد الشعور عند كل منهم بالثقة والقُرب من الله والتقرب إليه، فتجاوزُوا الضغوط التي صادفتهم وعبروا جسُور المحن.
التوكل على الله
أمّا قيمة التوكل على الله، فهي جدار راسخ في بناء القوة النفسية للمسلم، فهي تجعله لا يخشى إلا الخالق العظيم، يقول تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173- 174]، وقال – جل شأنه – :{… وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 – 3].
وسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – مليئة بالمواقف الدالة على حُسْن توكله على ربه سبحانه، وثقته ويقينه به، فعن أنس عن أبي بكر – رضي الله عنه – قال: “قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما” (رواه البخاري).
إن التوكل على الله – بعد الأخذ بالأسباب – يُعطي الإنسان المسلم ثقة لا حدود لها في النتائج، ويشعره بالرّضا، ويمنحه قوة نفسية، ويدرك أن كل ما يتعرض له في حياته هو من عند الله، ومن أقدار الله؛ فلا يسخط، ولا ينصب، ولا يصاب باليأس أو القنوط أو التوتر أو القلق أو الإحباط، ولا يعاني من أعراض الضغوط.
حسن الصلة بالله
إن التحليل الدقيق لأفكار وأساليب الأفراد الذين يعانون من أعراض الضغوط النفسية الشديدة، يكشف عن نقص عناصر إيمانية كثيرة، منها: ضعف الصلة بالله، والتقصير في العبادات القلبية والشعائرية.
والتقرب إلى الله وطلب العون منه في بناء القوة النفسية التي تُعين على مواجهة المصاعب، يستلزم عددًا من المقدمات والشروط، يقول الحق – تبارك وتعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، ومن هذه الشروط:
1- تقوى الله عز وجل، قال تعالى: {… وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 – 3].
2- التعرف إلى الله في الرخاء: يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – “تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرفْك في الشدَّةِ”. (أخرجه الترمذي).
3- الدعاء والتضرع: يقول الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
4. كثرة الاستغفار والصلاة على النبي والاستعانة بالله عز وجل.
والقيم الصالحة والخلق النبيل هي صمام الأمان للأفراد والجماعات على حد سواء، وما أصدق قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
المصادر
1- أبو حامد الغزالی: منهاج العابدين. بيروت، مؤسسة الرسالة، 1989.
2- أبو علي التنوخي: الفرج بعد الشدة . بيروت: دار صادر للطباعة والنشر، 1978.
3- جمعة سيد سيف: إدارة ضغوط العمل. القاهرة: دار ايتراك للطباعة والنشر، 2004.
4- عبد الرحمن سليمان الطريري: الضغط النفسي، مفهومه، تشخيصه، طرق علاجه ومقاومته. الرياض: مكتبة الصفحات الذهبية، 1994.
5- فخر الدين الرازی: عجائب القرآن. بيروت: دار الكتب العلمية، 1984.
6- مصطفی محمود: علم نفس قرآني جديد. القاهرة: كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، عدد أغسطس 1998.