يدور كتاب دعاة لا قضاة الذي أصدره المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين- رحمه الله- حول القواعد الشرعية والموازين الإسلامية الدّقيقة التي يجب الاستناد إليها عند الحكم على الناس، وكذلك الدعوة إلى الإيمان بالله والالتزام بمنهجه واتباع رسوله- صلى الله عليه وسلم- ومواجهة الأفكار بالبيان والتصحيح وإزالة الشبهات، ورد الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، والجدال بالتي هي أحسن.
ويحمل الكتاب بين طيّاته رسائل تربوية للعاملين في حقل الدعوة، سيما الذين يتعرضون إلى مضايقات أمنية ومِحَن في غياهب السجون، حيث صدر الكتاب لمواجهة الفكر التكفيري والرد عليه والذي كان قد نشأ في المعتقلات وتلخّصت فكرته في “تكفير مسؤولي التعذيب بالسجون، ثم الحاكم الذي يأمرهم، ثم المجتمع الساكت على الحاكم”.
محتوى كتاب دعاة لا قضاة
جاء كتاب دعاة لا قضاة للإمام حسن الهضيبي- الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1977م- في عشرة فصول، للرد على الفكر التكفيري، وبيان بعض المفاهيم المهمة، والرّد على الشبهات التي أحاطت بجماعة الإخوان المسلمين ومنهجها، وذلك على النحو التالي:
الفصل الأول: تناول أصول العقيدة، وحقوق المسلم بالشهادة، ومذهب أهل السُّنَّة والجماعة في ذلك.
الفصل الثاني: تناول قضايا مفاهيمية عن الجحود، والكفر، والشرك، والردة، والنفاق، والفارق بينها.
الفصل الثالث: تحدث عن قضية الحاكمية كعقيدة، وعن حكم الجاهل بالأوامر والنواهي، والواجب عليه، والواجب على المجتمع نحوه، وعن حُكم سن القوانين ووضع التشريعات، وعن حد الخطأ والتأويل والإكراه، وحُكم المكره وأنواعه والفرق بين عمل القاضي والداعية.
الفصل الرابع: تناول قضية الجهل والخطأ في العقيدة، وأثبت أنه بعد ثبوت عقد الإسلام له لا يزول عنه إلا بنصٍّ أو إجماع.
الفصل الخامس: ردّ فيها على منهج الذين تبنوا الفكر التكفيري وخالفوا الأصول، مبطلاً دعاواهم بالأدلة الشرعية.
الفصل السادس: تناول مفهوم الطاعة والاتباع ومعناها، والفرق بين الاعتقاد والعمل.
الفصل السابع: تناول قضية مهمة ومركزية في العمل الإسلامي، وهي الحكومة الإسلامية، وما اتصل بها من قضايا مثل “الحكم” و”التحكيم” و”المعلوم من الدين بالضرورة”، وشروط الإمام المسلم، ووجوب إقامة الحكومة الإسلامية، وحكم الحاكم على خلاف الأمر.
الفصل الثامن: تناول قضية ذات أهمية في أدبيات الحركة الإسلامية، وهي معنى الطاغوت في اللغة والشرع، ومعنى الكفر به.
الفصل التاسع: تحدث باستفاضة عن التعامل المباشر مع القرآن الكريم، والشروط التي يجب أن يتحلى بها من يتصدى لتفسيره، مثل: الاجتهاد، ومعرفة اللغة العربية، والتفسير، والسُّنَّة، والفوارق بين الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه، ومعرفة واقع إجماع الصحابة والتابعين من السلف والإلمام بآثار السلف الصالح في مجال التفسير.
الفصل العاشر: عبارة عن ردود على بعض التساؤلات الخاصة ببعض الشبهات التي أحاطت بمنهج الإخوان المسلمين في فترة الحكم الناصري.
رسائل تربوية من كتاب دعاة لا قضاة
وفي محاولة لحصر الرسائل التربوية من كتاب دعاة لا قضاة للأستاذ حسن الهضيبي- رحمه الله- نجد أولها أن المسلم ليس مِن حقه أن يبحث في مدى صدق مَن نطق الشهادتين، إذ الأصل أنه مسلم وتجرى عليه أحكام المسلمين، وبرهان ذلك قول الرسول- عليه الصلاة والسلام- فيما حدث به أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله” (البخاري). وليس من حق المسلم أن يُكفّر الذي اقترف الكبائر أو المعاصي، لأن مَن قال ذلك مذهب شاذ من مذاهب غير أهل السنة، فالمسلم لا يُكفّر مسلمًا بمعصية.
ومن الرسائل التربوية، الإسراع بالتوبة بعد ارتكاب المعاصي؛ فالحسنات يُذهبن السيئات بالموازنة، والتوبة تسقط السيئات، قال عز وجل: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ (طـه: 82) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (هود: 114)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ” (متفق عليه).
ولا سبيل للإنسان أن يعرف ما في قلوب الغير، وعليه أن يُعامل الجميع حسبما تظهره ألسنتهم وليس ما تضمره قلوبهم، أما الشخص نفسه فإنه يعرف حقيقة ما في قلبه وما تحدثه به نفسه، فليكن على يقين أنّ الله تعالى مُطّلع على ما في قلبه، عالم بما توسوس به نفسه إليه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16).
ومن الشرك أن يعتقد الشخص أن شيئًا أو شخصًا أو مجموعة من الناس له سلطان نابع من ذات نفسه أي خارج عن سلطان الله وإن لم يعتقد مساواة ذلك السلطان لسلطان الله- عز وجل- لأنه متى أخرج شيئًا عن سلطان الله- عز وجل-، فهو قد انتقص سلطان الله ولم يعتقد فيه الكمال والشمول- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
والمنافق لا نُطلق عليه منافقًا إلا إذا أظهر ما يبطنه من الكفر، فإذا كان يُظهر الإسلام والإيمان فهو في ظاهره لنا مُسلم مؤمن يجب علينا أن نعامله بهذه الصفة وأن نجري عليه أحكام المسلمين.
وعلى المسلم ألا يتعلق بالمصطلحات التي يقول بها البشر غير المعصومين، ومنها (الحاكمية)، وأن يتشبث ويلوذ بكلام رب العالمين وكلام المعصوم سيد المرسلين- عليه الصلاة والسلام-، فهذا هو الكلام المُحكم الذي لا يظن فيه خطأ أو نقصان أو وهم، وهو المحفوظ حفظًا كاملا، لا يلحقه تبديل أو تغيير حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وشريعة الله هي التي لا يجوز التحاكم إلا إليها، فإليها يُردّ الحلال والحرام وما هو فرض وما هو مندوب إليه وما هو مكروه وما هو مباح: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).
وواجب الدعاة تجاه من يجهل منهج الله- عز وجل- وهُم كثرة لم يصلها علم بمختلف الشرائع التي أوجبها الله عليهم واقتصر علمهم على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج- أن يبلّغوهم بأوامر الله ونواهيه ويحثوهم على القيام بها وأدائها، وهم من قبل ذلك مسلمون لا ينقص جهلهم بتلك الشرائع من سلامة عقيدتهم شيئًا.
ولا يصح القول بأن المسلمين في هذا الوقت الذي نعيش فيه قد فسدت عقيدتهم وخرجوا عن دين الإسلام، لأنهم إذا جهلوا معظم الشرائع التي فرضها الله تعالى لتنظيم حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأصبح تصورهم- بعد أن لم يعد يعرف أغلبهم إلا بعض أحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج والقليل النادر عما هو مباح أكله ولبسه- أصبح تصورهم أن شريعة الله تكاد تكون أحكامها قاصرة على العبادات، وذلك الجزء القليل مما عرفوه من غيرها فقط.
والنصوص من الكتاب والسنة جاءت مُطلقة وعامة وشاملة ومقررة لأصل عام في الشريعة كلها، مقتضاه رفع الإثم عن المكره، قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ (الأنعام: 119)، وقال- عليه الصلاة والسلام-: “إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ ، و النسيانَ ، و ما اسْتُكرِهوا عليه”.
ومن الرسائل التربوية، أن سُنن الحياة تؤكد أن الدعوات والأمم إنما تنتصر ويعلوا شأنها بمَن يسخرهم الله- عز وجل- بفضله ورحمته من الصادقين الصابرين الثابتين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، والذين يبغون في كل قول وعمل وجه الله تعالى، ولا يخافون في الحق لومة لائم أو ذهاب دنيا أو ضياع جاه: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة﴾ (التوبة: 111).
والأعمال المأمور بها والمنهي عنها في الشرع إذا ما أتاها العبد فإن المدار في حكمها يتوقف على نيته “وإنما لكل امرئ ما نوى”. ومن قصد طاعة الله تعالى وتنفيذ حكمه فإنه لا يكون أبدًا متبعًا أو مطيعًا لمن نقل إليه ذلك الحكم أو وأمره به أو وأفتاه به، ولا يغير من ذلك شيئًا أبدًا أن يكون الناقل أو الآمر أو المفتي قد أصاب حكم الله في الحقيقة أو أخطأه.
والله- عز وجل- لم يرد منا مجرد الإقرار بالطاعة له ولرسوله- عليه الصلاة والسلام- بلا عمل بأوامره واجتناب لنواهيه، ولكننا مأمورون فضلاً عن الاعتقاد بوجوب الطاعة بالطاعة الفعلية وذلك بإنفاذ شرائع الله فيما أمر ونهى وفرض وأباح وتحويل ذلك إلى واقع حي قائم متمكن في الأرض.
والحكومة الإسلامية هي التي تعتنق الإسلام دينًا وتقوم على تنفيذ أحكام الشريعة التي تأمرنا بحراسة الدين والذب عنه والتمكين للمسلمين في الأرض وصَدُّ العدوان الذي قد يقع عليهم، والعمل على نشر دعوة الله، وإقامة هذه الحكومة من فروض الكفاية، تسأل عنه الأمة متضامنة في جميع أفرادها إلى أن يتحقق.
والفرض على المسلم أن يرجع ما أمكنه إلى كتاب الله تعالى والثابت الصحيح من أحاديث الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وأن يتبع الدليل منها المؤدي إلى معرفة الحكم الشرعي، فإن عجز عن ذلك وتلقى عن غيره، فمن المتعين عليه أن يكون على اعتقاد جازم بأنه إنما ينفذ حكم الله تعالى ورسوله- عليه الصلاة والسلام- لا أنه ينفذ أمر أحد سواهما.
ما يجب على الفقيه
وفصل كتاب دعاة لا قضاة ما يجب على الفقيه الذي يتصدى للفتوى، إذ عليه:
أن يكون عالمًا بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي نزل به القرآن وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الكلمات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة، وهي الألفاظ الواقعة على المسميات، ومن جهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني، فلم يعرف اللسان الذي خاطبنا به الله تعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام، ومن لم يعرف ذلك، لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36).
وفرض على الفقيه أن يكون عالمًا بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام ليعلم آخر أوامره وأولها، وحربه عليه السلام لمن حارب وسلمه لمن سالم، وليعرف على ماذا حارب ولماذا وضع الحرب، وحرم الدم بعد تحليله، وأحكامه عليه الصلاة والسلام التي حكم بها.
ثم عليه معرفة تفسير القرآن خصوصًا ما يتعلق بالأحكام وما ورد من الأخبار في معاني الآيات، وما رئي من الصحابة المعتبرين كيف سلكوا مناهجها وأي معنى فهموا من مدارجها.
ولا بد من معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأقوال النقلة والرواة عدولها وثقاتها ومطعونها ومردودها، والإحاطة بالوقائع الخاصة بها، وما هو عام ورد في حادثة خاصة، وما هو خاص عمّ في الكل حكمه.
ومن الضروري، معرفة الفرق بين الواجب والمندوب والإباحة والحظر، والكراهة حتى لا يشذ عن وجه من هذه الوجوه ولا يختلط عليه باب بباب، ثم معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين من السلف الصالحين حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة الإجماع.
إن كتاب دعاة لا قضاة للإمام حسن الهضيبي، استعمل مسلكا لم يكن مشهورًا لدى الإخوان، وهو الجدل التفصيلي، ويفسّر ذلك الأمر أن الغلو في التكفير قد بات خطرًا على الجماعة، فلم يكن بدٌّ من مواجهته بهذا المسلك.
المصادر والمراجع:
- دعاة لا قضاة لحسن الهضيبي.
- دعاة لا قضاة للأستاذ المستشار حسن الهضيبي.
- كتاب «دعاة لا قضاة» لحسن الهضيبي رحمه الله تعالى.
- الطبري: الجامع لأحكام القرآن 1/200.
- ابن حزم الأندلسي: المحلى بالآثار، 2/334.
- الشهرستاني: الملل والنحل، 2/ 160-162.