إن عملية تربية العبد الرباني في المنهج الإسلامي تقوم على ثلاثة مراحل هي: الإسلام، والإيمان ثم الإحسان؛ فحين تلتقي في نَفْس المُؤمِن قُوة الإسلام والإيمان مع صِدْق العَزيمة والإخلاص والسّكينة والرقة والصّفاء والإخبات والإحسان فإنّ هذا العبد يتمثّل في نفسه خُلُق الرّبانية.
والعبد الرّباني ذو شخصيّة سويّة وقيم عُليا وأخلاق نبيلة، وهو دائما يُحاول أن يتخلّق بأخلاق الله- عز وجل- ليكون خَليفة الله في الأرض، سيما أن هذا نداء رباني للفئة المؤمنة بأن ترتقي في العبادة والعلم والعمل الصالح لتصل إلى الربانية، يقول الله- عز وجل-: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
مراحل تربية العبد الرباني
وتمُر تربية العبد الرباني بثلاث مراحل أساسية هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، حيث تُسلّم كل مرحلة الأخرى، كما بيّن الحديث الذي نقله عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-، عن أبيه حينما قال: حدَّثني أبي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: “بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ عليْنا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عليه أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حتَّى جَلَسَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، ووَضَعَ كَفَّيْهِ علَى فَخِذَيْهِ. وَقالَ: يا مُحَمَّدُ أخْبِرْنِي عَنِ الإسْلامِ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: الإسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتَحُجَّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: صَدَقْتَ، قالَ: فَعَجِبْنا له يَسْأَلُهُ، ويُصَدِّقُهُ، قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإيمانِ، قالَ: أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، قالَ: صَدَقْتَ، قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسانِ، قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراك…” (مسلم).
والإسلام، هو الانقياد والإذعان لجميع أوامر الله- تبارك وتعالى- والانتهاء عن كل ما نهى عنه، وهو مِن الفعل الرُّباعيّ (أَسلَمَ) أي أذعن واستسلم وأطاع وانقاد، وابتعد عن الشِّرك الأكبر والأصغر، قال الله تعالى: (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 112]، وفي هذه المرحلة يركز المربي على بيان أهمية الإسلام وشأنه، وأنه الدين الخاتم الذي ينقذ البشرية من الضلال والنار.
ويأتي الإيمان كمرحلة ثانية بعد أن يتشرب العبد بالإسلام ويطبق أوامر الله وينتهي عن نواهيه، إذ هو لغة التصديق بكل ما جاء من عند الله ورسوله- قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: 17][3].
ثم تجيء مرحلة الإحسان وفيها يرتقي المؤمن ويصل إلى منزلة المقربين السابقين بالخيرات، وهي تحتاج إلى اجتهاد في فعل المستحبات، وترك فضول المباحات، وبقدر هذا الاجتهاد يكون كمال الإحسان وعلو المرتبة عند الله تبارك وتعالى.
والإحسان في اللغة هو إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه، وفي الشرع يختلف معناه بحسب إطلاقه،
وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أن مرتبة الإحسان على درجتين وأن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين، المقام الأول وهو أعلاهما يعني أن تعبد الله كأنك تراه وهذا يسميه بعض العلماء (مقام المشاهدة) وهو أن يعمل العبد كأنه يشاهد الله عز وجل بقلبه، والمقام الثاني: مقام الإخلاص والمراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى.
صفات العبد الرباني
ويتميز العبد الرباني بصفات وعلامات تظهر على أفعاله وأخلاقه، لأنه يجعل من ربه قصده وغايته ووجهته فى كل صغيرة ظاهرة كانت أو باطنة، وفيما يأتي بيان لبعض تلك العلامات:
- الرب عنده هو الرب ولا أحد سواه: فقوله لله، وإذا كتب فحُروفه لله، وإذا تزوج فزَواجه لله، وإذا عاشر فعشْرته بالمعروف حسبة لله وبما يرضى الله، وإذا اكتسب المال اكتسبه بما يرضى الله، فالله هو وحده المنتهى والغاية والمقصد والوجهة والقِبلة والابتداء والانتهاء.
- خطراته وسكناته وحركاته لله: فهو يتكلم بكلام الله، ويعمل لنيل رضى مولاه، ويجتهد فى طاعته وعبادته لا يكلّ ولا يملّ بحركات لسانه يرطبها لله وبالله، وينشغل بالذكر، ويسيطر عليه الخوف من الله والرجاء فيه وإليه، يسعى دومًا نحو التقيد بكل بما أمر به الله ونهى وبكل ما أرشد إليه ونصح به الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم.
- أكثر تعلقًا بالله من غيره: فتكون جائزته الحتمية أن يتحصل على هدايا ربانية وبصيرة يرى بها ويبصر، هدية من العاطى المعطي- جل وعلا- جزاءً من الله لعبده وتقديرًا وإحسانًا.
- مؤمن توّاب: وهو من عباد الله المؤمنين التائبين العابدين السائحين الراكعين الساجدين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله.
- عالم عامل: وهو المعلم الفقيه البصير بحال الناس، قال ابن قتيبة: “وأحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون”، وقال العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: “الربانيين أي العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية ويسلكون معهم مسلك الأنبياء”.
- التعلق بذكر الله: فهو عبدٌ قد تعلق بالذكر وانشغل به ليله ونهاره، في أسحاره وأسفاره، وقعوده وسَيره، وأكله وشربه، ونكاحه وعيشه، ودرَاسته ووظيفته.
- الالتزام بتقوى الله: فهو يخشى الله- جل حلاله-، في السّر والعلانية، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر:28]، ومن خشيته سبحانه عمل العالم بمقتضى علمه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “إنما العلم خشية الله”.
- التواضع: فالربانيّ يقبل الحقّ ويعرفه، فلا يردّه، ولا ينتصر لنفسه، فهو صاحب أخلاقٍ عاليةٍ، يعرف قَدْر نفسه، ومكانته، ولا يتسبّب بأذى أي أحدٍ، ولا يشتغل بهم.
- حُسْن الخُلق: خصوصًا الصَّبْر، والتحمّل، والكرم، والحكمة، والخضوع لله- سُبحانه.
- دائم الحب لله: فهو مَن جعل ربه غايته وبغيته ومقصده، وهو من أحب الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- حبًا كثيرًا فصار له متبعًا وبه مقتديًا، وهو مَن أحب القرآن فجعله له منهجًا ودستورًا.
- زاهد في الدنيا: فهو لا يغتر بالمناصب العالية، ولا يهوى الرياسة الفانية، فها هو الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله-، يصف الرباني بأنه: “عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضيين ما كان أشبهه، أتته البدع فَنفاها، والدنيا فأباها”.
- الاستقامة على المنهج القويم: وهو منهج أهل السنة والجماعة، وهدي السلف الصالح، عقيدة صحيحة بالدعوة للتوحيد، والتحذير من الشرك والبدع وأهلها، وعملًا وأخلاقًا، فله في رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وسلفه الصالح- رضوان الله عليهم- أسوة حسنة.
إن تربية العبد الرباني تمر بثلاث مراحل متتالية، وهي الإسلام الذي يبدأ بنطق الشهادتين ثم الالتزام بأركانه وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج لمن استطاع، ثم الإيمان والتصديق، وأخيرًا مرحلة الإحسان وهي الإخلاص وإتقان العمل، وإذ طُبقت هذه المراحل على إنسان تميز بصفات وعلامات جعلته في مرتبة الربانية التي هي الانتساب للرب، وهذا الانتساب لا يتحقق إلا بأن نكون لله رب العالمين في كل أحوالنا؛ فالرّبانية لا تتأتَّى مكتملةً إلا بهذا؛ بعبادة الله- عز وجل- بالمفهوم الشامل للعبادة، وهو جعل الحياة والممات والحركات والسكنات له سبحانه؛ فلا ننطق إلا بما يُرضي الله، ولا نعمل إلا ما يرضاه الله، ولا تتوجه نياتنا في تلك الأقوال والأفعال إلا لله.
المصادر والمراجع:
- أبو الهيثم محمد درويش: نحتاج إلى هذا الرباني.
- موقع إسلام ويب: كونوا ربَّانيين.
- نبيل جلهوم: في محراب الربانية.
- هبة زواهرة: كيف أكون عبدا ربانيا؟
- الشيخ حافظ الحكمي: معارج القبول 2 / 20 – 33، 326 – 328.
- ابن عثيمين: المجموع الثمين 1 / 49، 53.
- ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم والحكم 1/ 106.
- ابن الجوزي: زاد المسير، 1/413.
- السعدي: تفسير السعدي، ص 232.
- أبو يعلى: طبقات الحنابلة، 1/ 10.
- ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، 1/ 106.