تحمل سورة الإنسان الكثير من مظاهر التربية الوجدانية وبيان أحوال الإنسان وما يعتري النفس البشرية من تقلبات، والدعوة إلى تأمل النفس والتبصر بأحوالها وفهم حقيقتها وإدراك أبعادها، وسبر أغوارها في جميع مراحل العمر، سيما ما يتعلق بالجانب الوجداني.
ولقد اشتملت السورة على العديد من المبادئ أبرزها الاعتبار والترغيب والترهيب، إضافة إلى جملة من أساليب التربية الوجدانية، مثل: أسلوب الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والتوجيه للتعلق بالآخرة، التنويع في التحفيز، وهو ما نقف عليه في السطور التالية لاستنباط المعاني التربوية الوجدانية من خلال أقوال المفسرين وفهم السّلف الصالح.
مبادئ التربية الوجدانية في سورة الإنسان
واشتملت سورة الإنسان على جُملة من المبادئ التي تتعلق بالتربية الوجدانية ومن هذه المبادئ:
- مبدأ الاعتبار: وهو حالة نفسية تُوصّل الإنسان إلى معرفة المغزى والمآل لأمر ما ليَصل إلى نتيجة مُؤثّرة يخشع لها قلبه؛ ليدفعه إلى ممارسة وسلوك صحيح.
- والسورة تبدأ بلمسة رقيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ مَن الذي أوجده؟ ومَن الذي جعله شيئًا مذكورًا؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} (الإنسان:1)، تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة نشأته وأصل تكوينه: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان: 2).
- والإشارة إلى السّمع والبصر إشارة إلى أهمية استعمال هاتين الحاستين مع العقل في النظر والتفكر والاعتبار. يقول ابن سعدي: ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها.
- مبدأ الترغيب والترهيب: وقد بُني هذا المبدأ التربوي الوجداني على ما فَطَر الله النّفس البشرية من الرغبة في اللذة والنعيم وحُسن البقاء، والرهبة من الألم والشّقاء وسوء المصير.
والترغيب وعد يصحبه التحبيب كمصلحة أو مُتعة آجلة مؤكدة مقابل الامتثال للأمر والنهي، والترهيب وعيد وتهديد مترتب على عدم الامتثال للأمر، والنهي والترغيب والترهيب مبدأ وجداني قرآني ينضوي تحته أساليب تربوية متعددة، منها: الوعد، والوعيد، وأسلوب الثواب والعقاب، وأسلوب التّعلق بالآخرة.
- الابتلاء: يقول الله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) [الإنسان:2] قال السعدي: بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى وتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟، فأنشأه الله وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالمسع والبصر، وسائر الأعضاء، فأتمها له وجعله سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده. وقال الكفوي في “الكليات”: “الابتلاء في الأصل، التكليف بالأمر الشاق من البلاء، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفها”.
- الهداية: يقول- عز وجل-: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]، قال القرطبي: “إنا بينا له طريق الجنة، وعرّفناه سبيله، إن شكر، أو كفر. وإذا وُجِّه الكلام إلى هذا المعنى، كانت إما وإما في معنى الجزاء، وقد يجوز أن تكون إما وإما بمعنى واحد”.
- الوفاء بالنذر: ومن صفات المؤمنين الأبرار أنّهم يُوفون بنذورهم، فقد قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}.[الإنسان:7]، وهي تحض على وجوب المداومة على الأذكار فقد أمر الله -تبارك وتعالى- المسلمين بالمداومة على الصلاة وأداء العبادة والمحافظة على الأذكار من تسبيحٍ وتحميدٍ وتهليل، وذلك بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}.
- الإنفاق في سبيل الله: فمن صفات الأبرار أنّهم ينفقون ويطعمون الطعام محبّةً في الله وفي سبيله، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.[الإنسان:8] فالآية تحث على وجوب إخلاص النيّة وجعل كلّ ما يقوم به العبد هو ابتغاء مرضاة الله دون انتظار الشكر من أحدٍ سواه.
من أساليب التربية الوجدانية في سورة الإنسان
تضمنت سورة الإنسان جملة من أساليب التربية الوجدانية، نعرض فيما يلي لأهم هذه الأساليب:
- أسلوب الوعد والوعيد: وهو يحفز النفس على التفكر في مآلات الأمور، ويتوافق مع جبلة النفس البشرية، وفي هذه السورة ورد الوعيد من خلال تصوير نعيم الجنة وملذاتها ومتعها الباقية، كما ورد الوعيد في أول السورة من عاقبة الكفار بتكبيلهم بالسلاسل والأغلال في سعير جهنم. قال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا (11) وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا (12)} وهذا من باب التجانس البليغ: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ} أي: آمنهم مما خافوا منه: {ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أي: في وجوههم: {وسُرُورًا} أي: في قلوبهم.
قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس. وقوله: {وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا} أي: بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم: {جَنَّةً وحَرِيرًا} أي: منزلًا رحبًا، وعيشًا رغدًا ولباسًا حسنًا.
- أسلوب الثواب والعقاب: جبل الله النفوس وفطر الناس على التعلق بالثواب، والحذر من العقاب، ولذلك فإن لهذا الأسلوب الأثر العظيم في التحفيز على الاستقامة وامتثال الأمر والنهي وهذا إنما يغير في النفس والوجدان، فيظهر في صور انفعالات ومشاعر إيجابية في الثواب وسلبية في العقاب، ثم تترجم هذه الانفعالات والوجدانيات إلى سلوك وعمل وممارسة.
ويحسن بالمربّي الاستفادة من أسلوب الثواب والعقاب في تعامله مع طلابه مع مراعاة المرحلة العمرية وحجم العمل المراد تنفيذه.
- أسلوب التوجيه للتعلق بالآخرة: إن التربية على التعلق بالآخرة يضبط سلوك المتربي إذ يذكي في نفسه استشعار مسؤولية العمل والجزاء، ولذا جاء الذم صريحًا للكفار لتعلقهم بالدنيا ونسيانهم الآخرة: {إنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ ويَذَرُونَ ورَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}.
وقد جاءت الآيات المحكمات في الترغيب للتعلق بالآخرة والزهد في الدنيا، منها قوله تعالى: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُورًا (9) إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)}، ولهذا فإنما توزن الأعمال في الحس الإيماني الوجداني بمآلاتها في الآخرة.
والتعلق بالآخرة لا يعني بحال نسيان الدنيا، قال تعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، وقد حفلت هذه السورة العظيمة بالتشويق إلى الآخرة وترتيب عظيم الجزاء على تعلقهم بالآخرة، فقال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا (11) وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا (12)}.
- أسلوب التنويع في التحفيز: خلق الله الخلق وجعل نفوسهم مختلفة متباينة في نظرها إلى الأمور، فمنها ما يحفزه العاجل ومنها ما يُحفزه الآجل من الخير، وسُورة الإنْسَان حافلة بأنواع من الحوافز الإيمانية في الحث على التعلق بالآخرة وتصوير مباهجها.
وقد ورد في صور النعيم المقيم في الجنة في هذه السورة، قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا * وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا * ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * ويُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * ويُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا * وإذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ وحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} [الإنسان:11-22].
- أسلوب تعظيم الخالق وقدرة الله على تبديل الخلق: إن تعظيم الله من أعظم العبادات التي غفل عنها كثير من الناس فساءت أحوالهم وتلاعبت به الشياطين والأهواء؛ فالتوحيد الذي هو رأس الأمر هو الأصل في تعظيم في تعظيم الله، فالله أعظم من أن يعبد معه غيره. قال سيد قطب: “هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير، ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه. ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئًا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة، وسلطت عليه النور، وجعلته شيئًا مذكورًا؟
- أسلوب الربط بالقرآن الكريم: قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان:23-24]، فالقرآن كلام الله ووحيه الذي أنزله على عبد محمد- صلى الله عليه وسلم- في مدة ثلاثة وعشرين سنة، مفرقًا منجمًا بحسب الحوادث والمسائل، فهو ليس مفترى من عنده ولا جاء به من تلقاء نفسه كما يدعي المشركون، وبما أن السورة تضمنت الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، فإن الناس بحاجة ماسة إلى هذا الكتاب الذي ليس بسحر ولا كهانة ولا شعر، وأنه حق من عند الله.
المصادر والمراجع:
- الدكتور عبد الله بن محمد السهلي، بحث عن “معالم التربية الوجدانية في سورة الإنسان”.
- السعدي: تفسير السعدي تيسير الكريم الرحمن، ص 900.
- الكفوي: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ص 34.
- القرطبي: تفسير القرآن، ص 578.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ص 579.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، 6/3779.