يُعد الشهيد سيد قطب واحدًا من رموز الفكر التربوي الإسلامي، ورائدًا من روّاده، لجهوده العظيمة في المنافحة عن الثقافة الإسلامية والفكر التربوي، ضد النزعات الغربية المتطرفة في مجال الأدب والتربية.
وتتضح معالم الفكر التربوي عند صاحب “الظلال” من خلال تفسيره للقرآن الكريم، ورؤيته لخصائص المنهج الإسلامي في التربية، والطبيعة الإنسانية، والقيم، والتغير الاجتماعي والثقافي، والأسرة المسلمة كوسيط تربوي، وتربية الجماعة المسلمة.
نشأة سيد قطب
وُلِدَ سيد قطب إبراهيم في أحضان عائلة مُوسرة نسبيًّا في قرية موشا الواقعة في محافظة أسيوط سنة 1906م. كان والده رجلًا متدينًا مرموقًا بين سكان القرية وعضوًا في لجنة الحزب الوطني الذي كان يرأسه مصطفى كامل. وكانت أمه سيدة متدينة، وله أختان وأخ أصغر منه سِنًّا هم: حميدة وأمينة ومحمد.
فَقَدَ “قطب” والده وهو لم يزل يتابع دراسته بالقاهرة فأحس بثقل المسؤولية، وقد التحق بدار العلوم وتخرج فيها عام 1352هـ – 1933م، ولما تُوفّيت أمه في عام 1940 أحس نفسه وحيدًا في الحياة. وكان قد انضم إلى حزب الوفد المصري لسنوات، وتركه -على إثر خلاف- عام 1361 هـ – 1942م.
وفي 3 نوفمبر 1948م سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة لمدة عامين بترشيح من وزارة المعارف، ليعود إلى مصر عام 1370 هـ – 1950م، وهو العام الذي انضم فيه إلى جماعة الإخوان المسلمين، ليصبح عضوًا في مكتب إرشادها، ورئيسًا لقسم نشر الدعوة بالجماعة، ورئيس تحرير جريدتها.
وحينما ألقي القبض على شقيقه محمد في عام 1965م، أرسل رسالة احتجاجية إلى المباحث التي اعتقلته هو الآخر في العام ذاته، وحُكم عليه بالإعدام، ونُفّذ الحكم في 29 أغسطس عام 1966م، بعدما نطق مقولته التي ظلت تتناقلها الأجيال: “إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها، دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة”.
القيمة التربوية لتفسير سيد قطب
ومن خلال استقراء تفسير الظلال، يتضح أنّ سيد قطب عالج قضايا تربوية عديدة لعل من أبرزها:
- التّصور الإسلامي عن الإنسان والكون والحياة، وخصائص المنهج الإسلامي في التربية، والطبيعة الإنسانية، والقيم، والتّغير الاجتماعي والثقافي، والأسرة المسلمة كوسيط تربوي، وتربية الجماعة المسلمة، ونظرة الإسلام إلى المعرفة والعلم، بالإضافة إلى جوانب أساسية في تربية الشخصية المسلمة: (التربية العقائدية، والتربية الأخلاقية، والتربية الجهادية، والتربية الاجتماعية).
- تزويد المسلم المعاصر بدليل عملي مكتوب عن سمات الشخصية الإسلامية المنشودة. لذلك كان يُركّز على الجانب العملي لمعناها والإيحاءات الحية التي تقود العاملين في طريق الدعوة والإصلاح، ولهذا نراه يُركّز كثيرًا على بيان طبيعة الإيمان وحقيقته وقيمته ومقوماته في الحياة الإنسانية وآثاره في النّفس والسلوك والحياة على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع.
- توضيح ملامح وسمات المجتمع الإسلامي، الذي يُنشئه القرآن الكريم، والتعريف بالأسس القويمة، التي يقوم عليها، ورسم الطريق الحركي الجهادي لإنشائه. كل ذلك من منطلق أن الجماعة ضرورية لتربية الأفراد تربية قرآنية ناجحة.
- بيان معالم الطريق التي تسلكها الجماعة المسلمة إلى ربّها ورسم سماتها وتحديد مراحلها والتحذير من الفتن والمغريات والمعوقات فيها.
خصائص المنهج الإسلامي في التربية
تناول سيد قطب خصائص المنهج الإسلامي في التربية، بما يُجسّد نواحي الإعجاز التربوي في هذا المنهج الرباني المستمد من كتاب الله وسنة رسوله الكريم- عليه الصلاة والسلام- ويُمكن بيان أبرز هذه الخصائص، كما وَرَدَت في تفسير الظلال على النحو الآتي:
أ- الانطلاق من التصور العقائدي: فالمنهج الإسلامي في التربية، يقوم على أساس إرساء التصور الاعتقادي وجعله المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني. وقد جاءت السنة النبوية، لتؤكد أهمية العقيدة في التربية؛ حيث كانت تربيته- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، مبنيّة على أُسس عظيمة وأصول كبيرة أولها العقيدة الصحيحة التي حَوَاها القرآن الكريم، بما فيه من الآيات التي تدعو إلى التوحيد.
ولكي تؤتي التربية ثمارها فإنّ “المنهج الإسلامي في التربية، يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ويجعل العبادة، وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية”.
ب- مخاطبة الفطرة الإنسانية بالآيات الكونية: فالتربية بالآيات من أساليب التربية الإسلامية الفاعلة ويقصد بها “تربية عقل الإنسان وسمعه وبصره ومشاعره بالآيات، على حُسن الإدراك وعلى الاستبصار واستخدام الحواس وإرهافها لتوصله إلى معرفة مسبب الأسباب ومعرفة الحق في كل النتائج والأسباب”.
ويشير قطب إلى تميز المنهج الإسلامي في التربية، من حيث كونه “يخاطب الفطرة البشرية بآيات الله الكونية المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون، تلك التي يعلم سبحانه أنّ فيها لغةً مفهومة وإيحاءات مسموعة، ولذا لم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي العقيم، الذي جاء فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأنّ الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يدفع إلى حركة ولا يؤدي إلى بناء حياة”.
ج- تنظيم دوافع الفطرة وعدم محاربتها: أشار قطب إلى أن “الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، إنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية”.
د- اعتماد أسلوب التربية بالعمل والممارسة والتجريب: يؤكد قطب أن منهج التربية في الإسلام، واقعي عملي، لا نظري معرفي، مهمته بناء نظرية وعرضها لذاتها. ويقدم تفسيرًا تربويًّا ونفسيًّا لطبيعة هذا المنهج في التربية بقوله: “فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية، لا تصاغ صياغة سليمة ولا تنضج نضجًا صحيحًا ولا تصح وتستقيم على منهج، إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية، التي تحفر في القلوب وتنقش في الأعصاب وتأخذ من النفوس وتعطي، في معترك الحياة ومصطرع الأحداث”.
ويكتسب أسلوب التربية بالممارسة والعمل أهميته من خلال كونه: يؤدي إلى زيادة فهم التلاميذ لما تعلموه، ويحد من الملل الذي يصاب به التلاميذ من كثرة الدراسات النظرية داخل الفصول، وأن ممارسة الشيء وتطبيقه، عامل قوي في حفظ المعلومة وصيانتها من النسيان ما أمكن.
هـ- توجيه المسلمين إلى الانفتاح على الخبرات النافعة: أشار قطب إلى اهتمام المنهج التربوي الإسلامي بتوجيه المسلمين إلى الانتفاع بخبرات وتجارب الآخرين ممن قبلهم، وذلك من خلال قوله: “هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكـذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها وإلى سنته سبحانه وتعالى في تربية عباده المختارين، الذين ينقل إليهم رايته وينوط بهم أمانته في الأرض”.
و- التدرج في معالجة السلوكيات المنحرفة: يشير قطب إلى “منهج القرآن العجيب وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة ومرحلة مرحلة ويصعد بها- في هِينة ورفق وفي حيوية كذلك وحرارة وفي وضوح وعلى بصيرة- درجات السلم في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة في المعرفة والرؤية وفي الانفعال والاستجابة وفي التكيف والاستقامة”.
ويوضح قطب لنا القاعدة، التي يقوم عليها مبدأ التدرج في المنهج التربوي الإسلامي؛ فحينما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، فإن الإسلام يقضي فيها قضاءً حاسمًا منذ اللحظة الأولى، ولكن عندما ينطلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج ويهيئ الظروف الواقعية التي تيسر الطاعة والتنفيذ.
الأسرة المسلمة كوسيط تربوي
يُشير سيد قطب إلى أن الطفل في حاجة ماسة إلى رعاية الأسرة وملازمة الأبوين، أكثر من احتياجه لأي شيء آخر، وذلك لأن الطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة من غيره، كما أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيئة وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته، ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة ودوره في الأسرة أعظم دور، امتدت طفولته لتحسين إعداده وتدريبه للمستقبل.
وتكتسب الأسرة أهميتها التربوية، من خلال كونها المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية وهي تزاول تنشئة العنصر الإنساني وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي.
ويؤكد قطب أن الأسرة، لا يمكن أن يناظرها- كمحضن تربوي- أي جهاز، ويشير إلى الآثار السلبية الناتجة عن إقصاء الطفل الصغير عن الأسرة فيقول: “إن الطفل الذي يحرم من محضن الأسرة، ينشأ شاذاً غير طبيعي في كثير من جوانب حياته، مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة”.
ويرى أن المفهوم الشامل للرعاية الأسرية، لا يقتصر على الجانب البيولوجي الجسدي فحسب، بل يتعداه إلى جوانب أخرى حيوية ومطلوبة وقد لخص أبرز الوظائف التربوية للأسرة، في تنمية النشء جسديًّا وروحيًّا وعاطفيًّا، كما أنها مطالبة بتزويد النشء برصيد من المعرفة الإنسانية والتجارب التي تُؤهّله في حياة المجتمع الإنساني والمشاركة في حمل تبعته.
داعية إلى الله
“هو داعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه”.. هكذا وصف الشيخ يوسف القرضاوي الشهيد سيد قطب الداعية إلى الله، مؤكدًا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها.
وقال القرضاوي: أعتقد أنَّه (قطب) كان مخلصًا في دعوته، أصاب فيها أم أخطأ فهو مخلص، وأعتقد أنه من الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163].
وعن رؤية “قطب” للدعوة إلى الإسلام، يقول- رحمه الله-: “إن آفة رجال الدين- حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة، أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى الخير ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى. والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها”.
وكما برع “قطب” في الأدب والنقد، سطع نجمه في مرحلة الدعوة إلى الإسلام الذي كان يصفه بأنه عقيدة ونظام للحياة يُقِيم العدالة الاجتماعية في الأرض، ويرفع التظالم بين الناس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين، بوسيلتين أساسيتين، هما: التشريع القانوني، والتوجيه الأخلاقي.
واهتم قطب بقضية المظالم الاجتماعية في مصر، وسيطرة الإقطاع المتجبِّر في الأرياف، والرأسمالية الاحتكارية المستغلة في المدن على الاقتصاد المصري، وضياع الفلاحين والعمال- وهم جل المصريين- بين تجبُّر أولئك وتسلُّط هؤلاء.
وقد بدا هذا التوجه واضحًا خلال مشاركته في مجلة (الفكر الجديد) التي كانت تُعْنَى بهذا الجانب الاجتماعي، وظهر أول كتاب له في هذه المرحلة، وهو: كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) الذي عرض الموضوع بطريقة منهجية، بيَّن فيه أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام، استقبلته الأوساطُ الإسلامية بالحفاوة والترحيب؛ باعتباره أول مولود لقطب في عهده الجديد، واستبشروا بأن التيار الإسلامي قد كسب كاتبًا له وزنه الأدبي، وقلمه البليغ؛ فهو يعد إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار.
ولم يكتفِ قطب بهذا الكتاب بل أتبعه بكتب أخرى: (معركة الإسلام والرأسمالية) و(السلام العالمي والإسلام)، ومقالات عدة كتبها في مجلة (الدعوة) التي يصدرها الإخوان، ومجلة (الاشتراكية) التي يصدرها حزب العمل، ومجلة (اللواء) التي يصدرها الحزب الوطني، ولكن هذه المقالات كانت كلها (تحت راية الإسلام). وهي التي جُمِعَتْ بعد ذلك تحت عنوان (دراسات إسلامية).
ورغم الجدل حول الأطروحات الفكرية للشهيد سيّد قُطب، فالجميع يشهد بثباته وإيمانه بدينه، وهو ما جعله لا يعبأ بالموت في سبيله، ولا يركن للظلم، ولا يرضى عن الظالم حتى ولو بكتابة كلمات قليلة: “إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفًا واحدًا يُقر به حكم طاغية”.
رحم الله شهيد الإسلام ورضي عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:10).
المصادر والمراجع:
- الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي. سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد. دار القلم- دمشق 1431/2010.
- عبده دسوقي . سيد قطب.. من المدرسة الشعرية إلى الزعامة الإسلامية. مجلة المجتمع، 29 أغسطس 2018.
- الدكتور محمود خليل أبو دف. معالم الفكر التربوي للشهيد سيد قطب. 1423ه/2002م.
- الأستاذ سيد قطب. في ظلال القرآن. طبعة دار الشروق.
- الدكتور يوسف القرضاوي. سيد قطب.. المفكر الإسلامي شهيد الدعوة والتربية والثقافة والفكر. https://www.al-qaradawi.net/node/2186 في 5سبتمبر 2022.