أقرأ القرآن الكريم، وأحفظ بعض أجزائه، وأقبل أحيانًا على قراءته وأحيانا أقف عاجزًا أمام عدم استشعاري لذة التلاوة، وفهم معانيه! فما هي الأسباب التي تجعلنا نفقد لذة استشعار الآيات في القرآن الكريم؟ وما هي الوسائل التي تعيننا على حُسن تلقيه والتأثر بآياته؟
الإجابة:
يقول أحد الأفاضل: ظللنا نتعامل مع القرآن فترة كبيرة ونسميه بصوت قرائه، فيدخل أحدهم سيارته ويقترح على مَن يرافقه “تسمع ماهر ولا تسمع العفاسي ولا عبد الباسط؟!”، فيجيب عبد الباسط مثلا، فيسأله ثانية: “أي مقطع؟!”.. وكأن القرآن تحوّل إلى نغمات وأصوات حلوة تطرب لها الآذان، بغير أن تعيها القلوب والأفهام.
قدمنا تلاوته وحفظه على فهمه، فلا نقلل من أهمية الحفظ، بل ندعو لفهم ما نحفظ، ولا يكون ذلك إلا بتدبر آيات القرآن، يقول تعالى: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”، واللام هنا في كلمة ليدبروا للتعليل، وهذا هو الهدف من تلاوته.
وارتبط القرآن لدى بعض الناس للأسف بسرادق العزاء، وشهر رمضان، وغاب عنهم مُعظم أيام العام، والقرآن يتفلّت بطبيعته، فبقدر ما نعطي القرآن من وقتنا وجهدنا، بقدر ما يعطينا كنوزًا ومعارف، فكيف لهؤلاء أن يتأثروا والقرآن بالنسبة لهم كالمواسم، لا تربطهم به علاقة يومية؟!
وقد تحوّل القرآن لدى البعض للأسف مثل سباق السيارات! نتسابق على ختمه، غير عابئين بفهم آياته، وقد سأل عبد الله بن عمرو الرسول- صلى الله عليه وسلم- في كم يختم القرآن، فقال- صلى الله عليه وسلم- مرة كل شهر، وظل يقول ولكني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال- صلى الله عليه وسلم- اقرأه في ثلاث، وكان عبد الله بن عمرو منقطع للعبادة، فيطيق قراءته متدبرًا في ثلاثة أيام.
المتأمل لإجابة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر (مرة في الشهر)، يفهم أن المراد أن يكون هذا حال عموم المسلمين في قراءته، فذلك القدر مُعين على التدبر، يتحول معه قلبنا إلى كائن حي، تدب فيه الروح (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا).
والقرآن يشحن روح المؤمن، يُواسي قلبه إذا ألمّ به مكروه، ويفرح قلب المؤمن إذا احتاج إلى الفرح، فحينما يقرأ آيات الجزاء؛ يفرح أملًا أن يناله، وحينما يقرأ آيات الوعيد للمظلومين يفرح بثأر الله.. إلخ.
يقول الله- عز وجل-: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، فيتساءل البعض كيف هو شفاء ونحن نقرأه ولا نتغير؟، هذا لأننا نأخذ الدواء بطريقة خاطئة، وماذا لو كتب لك الطبيب دواء وأخذته ولكن بطريقة خاطئة هل ستراجع الطبيب تشكو عدم الشفاء أم ستراجع نفسك، وهل اتبعت التعليمات أولًا قبل أن تشتكي؟!
مع الأسف، صار القرآن يُقرأ دون فهم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)، وحالنا معه كَمَنْ يأخذ الدواء، ولكن بطريقة خاطئة، وينتظر الشفاء! (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا)، قد نقرأه ولا نطبقه، وقد نقرأه ولا نتدبره، وقد نقرأه ولا تتحسن أخلاقنا، وكلها أشكال من أشكال الهجر التي تجعلنا لا نستشعر لذة آيات القرآن.
ماذا لو نزل القرآن بتفسيره في كتاب واحد، لكنّا قرأناه مرة وفهمناه، لكنه (لا يخلق من كثرة الرّد) أي لا يبلى من كثرة ترديده، وتتجدد المعاني فينا طبقا لِمَا نمر به من أحوال، فالآية التي أضحكتك بالأمس، قد تبكيك اليوم، لأن حالك اختلف، فنحمد الله على أن جعله لنا شفاءً وتسرية، بأن نحسن فهمه وتدبره حتى لا نشتكي وحشة في القلب.
هذه بعض الأسباب التي تجعلنا لا نستشعر اللذة، فما الذي يساعدنا على الإقبال عليه وتذوق حلاوته؟
وحتى تتجدد علاقتنا بالقرآن ونتذوق حلاوته، يجب أن نتذكر أنه كتاب أُنزل على العالم من خارج العالم ليقرأه العالم (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ) أُنزل من لدن حكيم عليم، فيه شفاء للناس، كتاب ليس ككل الكتب، كتاب سماوي لأهل الأرض، فكيف يكون تناوله؟
يقول ابن تيمية: مَن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله- صلى الله عليه وسلم- بعقله، وتدبره بقلبه، وَجَدَ فيه من الفهم والحلاوة والهدى، وشفاء القلوب، والبركة، والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا نظمًا ولا نثرًا.
كتاب ليس الغرض منه التبرك، ووضعه على الرفوف وقرائته في المحن فقط: (أفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)، فيصف القرآن اللاهي عن تدبره بأن على قلبه أقفال!
وإذا أتتنا رسالة مهمة من صديق أو مسؤول كيف نتعامل معها؟، نقف ونقرأها مرارًا وتكرارًا ونقلبها يمنة ويسرة نتأكد من فهمنا لما يريد، فكيف بكلام الله بين أيدينا نمر عليه مرورًا سريعًا! نقرأه ولا نتغير، لأننا لا نتدبره!
ومن الأشياء المعينة على فهم القرآن وتدبره تدبرًا عقليًّا:
- إجادة اللغة العربية، ونستطيع أن نقوي نفسنا فيها حتى تسر النّفس بفهم آيات القرآن.
- الاستعانة بالتفاسير، ومعاني غريب الألفاظ، وفهم أسباب النزول.
- أن يكون عندنا مَلَكة التخيل بتجسيد مشاهد القرآن، فذلك مما يجعلنا كأننا نشاهد الآيات رؤيا العين وكأنها مشهد تمثيلي على خشبة المسرح.
- أن يكون لدينا مَلَكة التفكير التدبري، بأن نسأل أنفسنا لماذا ختمت الآية بكذا ولم تختم بكذا؟ والتفاسير تعين على فهم ذلك.
- ومن التفكير التدبري؛ التأمل في سياق الآيات، وربط أول السورة بنهايتها، ونهاية السورة ببداية السورة الجديدة، وقلب السورة بين جنبيها كأنك ممسك بلوحة بديعة، فلن تمل التأمل، ولن تسارع الخُطَى نحو آية جديدة حتى تنهم وتتذوق الجمال، كتاب يقرؤك قبل أن تقرأه، وإذا عشت معه بهذا المعنى، سترى فتوحات وفيوضات جمة.
السائل الكريم..
إذا عجزت عن التدبر العقلي للقرآن لصعوبة أدواته بالنسبة لك، فلا يفوتك التدبر القلبي بسؤال الله الجنة إذا مررت على آيات الجزاء، وأن تستعيذ بالله من النار في سرك إذا مررت على آيات العذاب، وأن تطلب من الله أن تكون من المتقين تقرأ (وَاللهُ يُحِبُّ المُتَّقِينَ)، وعليك أن تردد في سرك، اللهم اجعلنا منهم.
ضع نفسك في كل آية تقرؤها، وما هي رسالة الله لك، وبماذا تخبرك هذه الآية.
يخاطب المولى عز وجل نبيه المصطفى: (لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ)، كيف والحبيب لم يسجد لصنم قط قبل نزول الرسالة، فما بالنا بعدها؟!، إذا المقصود هنا آلهة أخرى، كل ما يصرفنا عن الله، فمنّا مَن يتخذ هواه إلهًا، أو المال أو السلطة أو الشهرة.
إذا؛ تأمل في الآيات، واعلم أنها تخاطبك، بما فيها من معنى أو مقصد، أو حكمة تحرك القلب والعقل، فابحث عنها وتدبر.
وندعو الله أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، كما ندعوه أن يعيننا على ما كلفنا به، وهو ولي ذلك والقادر عليه.
ونختم بضرورة تثبيت وقت يومي، فالتثبيت أنفع وأرجى على تحقيق خلق المداومة، فمأدبة الطعام لا غنى عنها يوميا، كذلك مأدبة القرآن، فنُري الله من أنفسنا خيرًا.