بقلم: الدكتور طلعت فهمي
لمّا كان المربي هو حجر الزاوية في العملية التربوية وله دوره الملموس في صناعة المناخ التربوي الصحيح وتطبيق المناهج بما يؤدي إلى الارتقاء بالمتربّين.
ولمّا كانت الحاجة دائمًا إلى تعامل إنساني راقٍ يُسهّل التعامل مع المتربّين ويستشعر فيه المتربّون روح الأخوة الصافية والإنسانية الرفيعة.
ولمّا كانت السيرة النبوية هي المعين الصافي والمرجع الأمين للمربين، فقد رأيت أن ألج بابها باحثًا عن الممارسات الإنسانية الرفيعة لرسول الإنسانية جمعاء سيدنا محمد – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-، من خلال أربعة محاور:
- الأول: التعارف الشامل والوثيق.
- والثاني: التواصل الجيد الفعال.
- والثالث: الإحساس بمشاعر الآخرين.
- والرابع: إشباع الاحتياجات النفسية.
لتكون عونًا للمربين في تعارفهم الشامل الوثيق مع إخوانهم بأشخاصهم وقدراتهم وإمكاناتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم ليثمر تفاهمًا وتكافلًا.
لتكون عونًا للمربين في تواصلهم الجيد الفعال بإخوانهم في أفراحهم وأتراحهم وسائر مناحي حياتهم.
لتكون عونًا للمربين في إحساسهم بمشاعر إخوانهم أحبائهم الذين اجتمعت قلوبهم على محبة ربهم والتقوا على طاعته وتعاهدوا على نصرة شريعته.
لتكون عونًا للمربين على إشباع الاحتياجات النفسية لإخوانهم؛ فهم قلب واحد وجسد واحد وروح واحدة.
المحور الرابع: إشباع الاحتياجات النفسية
فالنبي – صلى الله عليه وسلم- من خلال اعتماده إشباع الاحتياجات النفسية، يمكننا التعرف إلى الممارسات التالية في إدارته – صلى الله عليه وسلم-:
يستشعر العاملون مع النبي – صلى الله عليه وسلم- الأمن والطمأنينة.
يجد العاملون مع النبي – صلى الله عليه وسلم- أنفسهم في أدائهم لأعمالهم.
ينسب النجاح، والإنجاز إلى مستحقيه.
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عليمًا باحتياجات الناس النفسية، والمادية، وأن للإنسان احتياجاتٍ أساسيةً من مطعم، ومشرب، وملبس، وسكن، وزواج، واستقرار، واحتياجات أخرى؛ لا تقل عن تلك في الأهمية؛ يستشعر بها الإنسان إنسانيته كإنسان؛ يحتاج إلى تأكيد ذاته، وإثبات قدراته.
وترى الله عز وجل حين امتنّ على قريش، وأظهر نعمته عليهم قال في كتابه المجيد:
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4) ﴾ [1].
وكانت الوفود تأتي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من أنحاء جزيرة العرب لتتعلم الإسلام؛ فكانوا يقيمون في المدينة المنورة الليالي ذوات العدد، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقدر مدى حاجتهم، واشتياقهم إلى أهلهم، ورغبتهم في العودة إليهم؛ فكان يرفع عنهم الحرج.
عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه- قال: أتينا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- ونحن شَبَبَة متقاربون؛ فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلةً، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رحيمًا رفيقًا؛ فلما ظنَّ أنَّا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا؛ سألنا عَمَّنْ تركنا بعدنا؛ فأخبرناه؛ قال: “ارجعوا إلى أهليكم؛ فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم” وذكر أشياء أحفظها، أو لا أحفظها “وصلوا كما رأيتموني أصلي؛ فإذا حضرت الصلاة؛ فليؤذن لكم أحدكم؛ وليؤمكم أكبركم” [2].
اهتمام النبي – صلى الله عليه وسلم- بتلبية الاحتياجات الأساسية لأصحابه:
فالنبى – صلى الله عليه وسلم- لا ينسى الجائع من أصحابه ويبدأ بهم قبل نفسه؛ فحين يأتيه الطعام يبحث عن أهل الصفة؛ وكانوا أناسًا فقراءَ لا أهل لهم، ولا مال، يبيتون في المسجد، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم- يتفقدهم، ويتفقد ذوي الحاجة من أصحابه؛ ممن تفرغوا لتحمُّل العلم، كأمثال: أبي هريرة؛ والمثال التالي يوضح ذلك:
أخرج أحمد عن مجاهد: أن أبا هريرة – رضي الله عنه- كان يقول: والله! إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم؛ الذي يخرجون منه؛ فمر أبو بكر؛ فسألته عن آية من كتاب الله؛ ما سألته إلا ليستتبعني؛ فلم يفعل، فمر عمر؛ فسألته عن آيه من كتاب الله؛ ما سألته إلا ليستتبعني؛ فلم يفعل، فمر أبو القاسم – صلى الله عليه وسلم- فعرف ما فى وجهي، وما فى نفسى؛ فقال: “أبا هريرة!” قلت له: لبيك يا رسول الله! فقال: “الحق” واستأذنت؛ فأُذن لي؛ فوجدت لبنا فى قدحٍ، قال: “من أين لكم هذا اللبن؟”.
فقالوا: أهداه لنا فلان – أو آل فلان؛ قال: “أبا هِرٍّ!” قلت: “لبيك يا رسول الله!” قال: “انطلق إلى أهل الصُّفَّةِ؛ فادعهم لي” قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام؛ لم يأووا إلى أهل، ولا مال؛ إذا جاءت رسول الله هديةٌ؛ أصاب منها؛ وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة؛ أرسل بها إليهم، ولم يصب منها، قال: وأحزنني ذلك، وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة؛ أتقوى بها بقية يومي وليلتي، وقلت: أنا الرسول؛ فإذا جاء القوم، كنت أنا الذي أعطيَهم، وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله ورسوله بُدٌّ! فانطلقت، فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا، فَأُذِن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، ثم قال: {أبا هِرٌّ! خذ، فأعطهم، فأخذت القدح} فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح، فيشرب حتى يُروى، ثم يَرُدُّ القدح، حتى أتيت على آخرهم، ودفعت إلى رسول الله فأخذ القدح، فوضعه في يده، وبقى فيه فضلة، ثم رفع رأسه، ونظر إليَّ، وتبسم، وقال: :أبا هِرٍّ!: قلت: لبيك رسول الله! قال: “بقيت أنا وأنت” فقلت صدقت يا رسول الله؛ قال: “فاقعد! فاشرب” قال: فقعدت؛ فشربت؛ ثم قال: “لي اشرب! فشربت؛ فما زال يقول لي: “اشرب!” فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق! ما أجد له فيَّ مسلكًا؛ قال: “ناولني القدح!” فرددت إليه القدح، فشرب من الفضلة [3].
وهذا مثال ثان يبين اهتمام النبي – صلى الله عليه وسلم- بخادمه ربيعة الأسلمي؛ يهتم بشأنه، وبأمر زواجه واختيار العروس المناسبة، وتدبير الصداق المطلوب؛ بل تدبير احتياجات وليمة العُرس.
فهو مثال واضح يبين نهج النبي – صلى الله عليه وسلم- في مراعاة مشاعر أصحابه، وتلبية احتياجاتهم.
أخرج أحمد عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال لي: “يا ربيعة! ألا تزوج؟” قلت: لا والله يا رسول الله! ما أريد أن أتزوج، وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثمّ رجعت إلى نفسي، فقلت: والله! لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- أعلم مني بما يصلحني في الدنيا، والآخرة، والله! لئن قال لي: ألا تزوج؟ لاقولنَّ: نعم يا رسول الله! مرني بما شئت، فقال لي: “يا ربيعة! ألا تزوج؟” فقلت: بلى! مرني بما شئت.
قال: “انطلق إلى آل فلان – حي من الأنصار كان فيهم تراخٍ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فقل لهم: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أرسلنى إليكم؛ يأمركم أن تزوجوني فلانة” لامرأة منهم – فذهبت إليهم، فقلت لهم: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليكم؛ يأمركم أن تزوجوني؛ فقالوا: مرحبًا برسول الله، وبرسول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: والله! لا يرجع رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- إلا بحاجته.
فزوجوني، وألطفوني، وما سألوني البينة؛ فرجعت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حزينًا، فقلت: يا رسول الله! أتيت قومًا كرامًا؛ فزوجوني، وألطفوني، وما سألوني البينة، وليس عندي صداق.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “يا بريدة الأسلمي! اجمعوا له وزن نواة من ذهب” قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “اذهب بهذا إليهم، فقل لهم: هذا صداقها” فأتيتهم؛ فقلت: هذا صداقها، فقبلوه، ورضوه، وقالوا كثير طيب، قال: ثم رجعت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حزينًا؛ فقال: “يا ربيعة! مالك حزينًا؟” فقلت: يا رسول الله! ما رأيت قومًا أكرم منهم، ورضوا بما آتيتهم، وأحسنوا، وقالوا: كثير طيب؛ وليس عندي ما أولم؛ فقال: “يا بريدة؛ اجمعوا له شاة” قال: فجمعوا لي كبشًا، عظيمًا، سمينًا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “اذهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام” قال: فأتيتها؛ فقلت لها: ما أمرني به رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقالت: هذا المكتل فيه سبع آصع شعير؛ لا والله، لا والله! إن أصبح لنا طعام غيرُه خذه. قال: فأخذته؛ فأتيت به النبي – صلى الله عليه وسلم- وأخبرته بما قالت عائشة؛ قال: “اذهب بهذا إليهم؛ فقل لهم: ليصبح هذا عندكم خبزًا، وهذا طبيخًا” فقالوا: أمَّا الخبز: فسنكفيكموه، وأما الكبش: فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش؛ أنا وأناس من أسلم؛ فذبحناه، وسلخناه، وطبخناه، فأصبح عندنا خبزٌ، ولحمٌ؛ فأولمت، ودعوت النبي – صلى الله عليه وسلم- [4].
وهذا مثال ثالث: يبين اهتمام النبي – صلى الله عليه وسلم- برجل من أصحابه؛ اسمه: جُلَيْبِيب؛ لم يؤت حظًا مما تعارف عليه الناس من متاع الدنيا، وما لِها، وكذلك في تكوينه الجسماني لم يؤت حظًا مما أتاه الله كثيرًا من الناس؛ فكان الناس يتعاملون معه؛ وكأنه لا ينتمي إلى عالم الرجال الذين يرغبون في الزواج، والاستقرار؛ فهم يرونه قصيرًا، دميمًا، لا يؤبه به، ولا ينظر إليه.
فأخرج الإمام أحمد عن أبى برزة الأسلمي – رضي الله عنه-: قال: وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيِّم لم يزوجها؛ حتى يعلم هل للنبي – صلى الله عليه وسلم- فيها حاجة؛ أم لا. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- لرجل من الأنصار: “زوجني ابنتك!” قال: نعم! وكرامة، يا رسول الله! ونعمة عين؛ قال: “إني لست أريدها لنفسي” قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: “لجليبيب” قال: أشاور أمها؛ فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يخطب ابنتك، قالت: نعم! ونعمة عين؛ قال: إنه ليس يخطبها لنفسه؛ إنما يخطبها لجليبيب. قالت: لجليبيب!! أنيه لجليبيب أنيه، لا لعمر الله! لا نزوجه.
فلما أن أراد ليقوم؛ ليأتي النبي – صلى الله عليه وسلم- ليخبره بما قالت أمها؛ قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها. فقالت: أتردون على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أمره! ادفعوني إليه! فإنه لن يضيعني؛ فانطلق أبوها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأخبره؛ فقال: شأنك بها؛ فزوجها جليبيبًا؛ قال: فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في غزاة له قال: فلما أفاء الله – عز وجل- عليه قال: “هل تفقدون من أحد؟” قالوا: لا؛ قال: “لكني أفقد جليبيبًا؟!” قال: “فاطلبوه!” فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم؛ ثم قتلوه؛ فقالوا: يا رسول الله! ها هو ذا إلى جنب سبعة، قتلهم ثم قتلوه؛ فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال: “قتل سبعة؛ ثم قتلوه! هذا مني، وأنا منه” مرتين أو ثلاثا.
ثم وضعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على ساعديه، وحفر له؛ ما له سرير إلا ساعدُ النبي – صلى الله عليه وسلم- ثم وضعه في قبره؛ لم يذكر أنه غَسَّله. وكان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم- لزوجته: “اللهم صب عليها الخير صبًا؛ ولا تجعل عيشها كدا؛ كدا!” فما كان في الأنصار أَيِّمٌ أنفقَ منها [5].
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يُسمع الناس الكلام الحسن الذى تطيب به نفوسهم، وسنعرض لبعض المواقف التي تدلك على ذلك:
حين ترك صهيب الرومي – رضي الله عنه- ماله للمشركين؛ من أجل أن يلحق برسول الله – صلى الله عليه وسلم- في المدينة واستقبله النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “ربح البيعُ أبا يحيى، ربح صهيب، ربح صهيب” [6].
فها هو النبي – صلى الله عليه وسلم- يناديه بكنيته، ويُطَيِّبُ نفسَه، ويُبَشِّرُهُ بثواب ما عمل، وصنع.
عن أنس قال رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- النساء والصبيان مقبلين من عُرس، فقام النبي – صلى الله عليه وسلم- مُمْثِلاً فقال: “اللهم! أنتم مِنْ أحبِّ الناسَ إليَّ” [7] قالها ثلاثًا.
عن أنس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مرَّ ببعض سكك المدينة فإذا بجَوارٍ يضربن بدفين؛ ويتغنين ويقلن: نحن من بني النجار يا حبذا محمدٌ من جارٍ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “الله يعلم: إنِّي لأُحِبُّكُنَّ” [8].
فها هو النبي – صلى الله عليه وسلم- يقوم مستقبلاً الأنصار؛ قائلاً: “اللهم! أنتم من أحبِّ الناس إليَّ”.
وفي الموقف الثاني يقول – صلى الله عليه وسلم-: “إني لأحبكن” فهذه هي عاطفة النبي تجاه أصحابه.
وروى الإمام أحمد؛ عن قيس بن أبى غَرَزَة البجلي – رضي الله عنه- قال: كنا نبتاع بالمدينة؛ وكنا نسمي أنفسنا السماسرة [9]؛ فأتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فسمانا باسم هو أحسن، وفي لفظ فأتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بالبقيع فقال: “يا معشر التجار!” فسمَّانا بأحسنِ ما سمَّانا “إن البيع يحضره الحلف، والكذب؛ فشوبوه [10] بالصدقة” وفي لفظ: “إن الشيطان، والإثم؛ يحضران السوق” وفي لفظ: “إن هذه السوق يخالطها اللغو، والحلف؛ فشوبوه بالصدقة” [11].
فأنت ترى الأثر النفسي للسماسرة؛ حين سماهم النبي – صلى الله عليه وسلم- بالتجار.